top of page

المزج العاصف.. إطلالة على تجارب الشعراء الشباب في الولايات المتحدة

  • نصر عبد الرحمن
  • Aug 30, 2015
  • 3 min read


يحتاج الإلمام بالمشهد الشعري في الولايات المتحدة إلى إلقاء نظرة على أعمال الشباب، ومتابعة التيارات الجديدة وهي في طور المخاض. علينا ألا نكتفي بترجمة ودراسة قمة جبل الجليد للمشهد الإبداعي الغربي، وأن نقترب أكثر من كتابات ذلك الجيل الجديد الذي يتحلى بروح المُغامرة، والرغبة في تجاوز المألوف والثورة عليه، في محاولة منه للتعبير عن ذاته. وفي هذا السبيل أعرض قصائد لبعض الشعراء الشباب في الولايات المتحدة، قام باختيارهم بعض النقاد والشعراء الكبار، بطلب من موقع مجتمع الشعر الأمريكي. الشرط الوحيد هو أن يكون كل شاعر/شاعرة منهم قد نشر ديواناً واحداً على الأقل، إلى جانب رأي الشاعر أو الناقد الذي قام باختياره، موضحاً أسباب ذلك الاختيار. كما أنلهم حضور واضح في الساحة الأدبية من خلال أعمالهم المنشورة، والجوائز التي فازوا بها. وأتمنى أن يصلح هذا العرض كمدخل للاطلاع على أحد جوانب المشهد الشعري الراهن في الولايات المتحدة، وإلقاء الضوء على بعض ملامحه وأبرز سماته.

ورغم تنوع القصائد وتباينها، إلا أن بينها مُشتركاً يُمكن تلمسه بسهولة. السمة الأولى التي تظهر بوضوح في هذه القصائد هي الاهتمام باللغة، وإظهار العداء لها في ذات الوقت، على نحو يثير الدهشة. حيث لا تقتصر الأزمة، بالنسبة لهم، على عجز اللغة عن مواكبة مشاعرهم والتعبير عنها فقط، بل لكونها أيضاً تحاصرهم بوابل من التصورات المُسبقة عن الوجود وعن الإنسان. لهذا يحاولون التخلص مما تحتفظ به اللغة في ثناياها من تعبيرات عن علاقات اجتماعية تجاوزها الزمن. وتتجلى نزعة الرفض العدائية للغة في انتهاك قواعد النحو وقواعد بناء الجملة، واستبدال دلالات الكلمات الشائعة باستخدامها في سياقات جديدة، ونحت كلمات وتعبيرات جديدة، واستخدام عبارات من لغات أخرى. كما يتناول الشعراء اللغة كموضوع في قصائدهم بشكل تهكمي ويسخرون من أيقوناتها التعبيرية القديمة، ويرفضون ما تنتجه من سياقات معرفية. ورغم قدرة اللغة الانجليزية على التجدد بوتيرة متسارعة، إلا أننا بصدد لغة جديدة فوق اللغة أو موازية لها؛ تفتقد جذور الثقة التقليدية للتواصل ومن ثم تستعصي على الإدراك إلى حد ما. ومن الغريب أن يصف بعض النقاد أعمال الشعراء الشباب بالغريبة، والمربكة، وغيرها من الصفات التي تلمح إلى افتقاد هذه الأعمال القدرة على التواصل الفعال مع مجتمعها.

وبالتوازي مع معاداة اللغة، اتسمت القصائد بمعاداة المنطق، واحتشدت فيها المشاهد العبثية، والإحالات اللامعقولة، والصور صعبة المنال، كما وصلت درجة كثافة بعض النصوص إلى حد الاختزال. وتتسم بنية النصوص بالمرونة والعفوية، حيث يتقافز الشاعر من نقطة إلى أخرى بسرعة وفي تشتت واضح، وبالتالي تفتقد البنية ترابطها في كثير من الأحيان، وعلى القارئ أن يعيد ترتيب هذه الوحدات ليصنع بنفسه التشكيل البنائي النهائي للنص. ويغيب المنطق أيضاً في العلاقة بين طرفي المجاز إلى درجة تصل إلى حد غموض الصورة الشعرية ومراوحة دلالتها. ولا يحاول الشعراء توصيل "رسالة" إلى القارئ، بل أصبح تركيزهم ينصب على "الحالة"، وأصبحوا يعتمدون على "الإيحاء" إلى القارئ بديلاً عن "التوصيل" المباشر، وبالتالي تتحول القصيدة حرفياً إلى لوحة سيريالية أو مقطوعة موسيقية، مفتوحة الدلالة إلى الحدود القصوى، هدفها الوحيد هو إثارة المشاعر من خلال الاتكاء على ذاكرة المُتلقي؛ الذاكرة الحسية لا المعرفية.

ولا يربط القصيدة بالواقع سوى مجموعة من الخيوط الواهية، فمراكز الثقل التي يتكئ عليها النص تغادر المتن وتنحو نحو الهامش الاجتماعي والثقافي والمعرفي لكي تناسب ما يقدمه الشاعر/الشاعرة من خبرة شديدة الذاتية. وهناك إحالات شحيحة إلى بعض الفلسفات الشرقية غير الشائعة والمعتقدات الشعبية، والأماكن الجغرافية المعزولة، إلا أن أغلبها لا يضيف زخماً معرفياً للنص قدر ما يسبب إرباكاً للقارئ. يعتمد التقاط الدلالة الكلية للنص وتحديد كنهها على الاستبصار أكثر من إعمال العقل. إننا بصدد حالة تمزج بين عبثية "هارولد بينر" وسريالية "سلفادور دالي" وجموح بيتهوفن، إنه مزج عاصف يتوارى معه المنطق وتتهاوى الدلالات القديمة، وتصبح الذات هي المُحدد الأوحد لمعنى الوجود.

وتتناول موضوعات هذه القصائد عدة أزمات وجودية الطابع مثل الاغتراب، وضياع الذاكرة، وأزمة الذات مع اللغة والواقع الذي تشكله. وهي موضوعات قديمة ومطروحة على المشهد الشعري الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية. ولقد أشارت "كاتي ديجينتيش" إلى تأثير "مدرسة نيويورك" على الموجة الحالية، ولقد ظهرت مدرسة نيويورك في عام 1960، على يد مجموعة من الشعراء الذين تأثروا بالنزعات الحداثية خاصة في مجال الفن التشكيلي، وسعى روادها إلى التعبير عن الاغتراب ومحاولات البحث عن الذات، إلى جانب نقد المجتمع ومحاولة استعادة مؤسساته. ولا يختلف تناول هذه القضايا في اللحظة الراهنة اختلافاً نوعياً عن التناول السابق في الستينيات؛ إلا أن هذه الموجة تحمل في طياتها تطوراً هاماً رغم كونه طفيفاًً؛ حيث تسيطر روح عديمة، ساخرة ولا مبالية؛ تعبر عن ذات بشرية وحيدة ومغتربة، تشرنقت وانفصلت بالفعل عن كافة المؤسسات الاجتماعية. ذات تحاور نفسها، ولا تطالب بهذا العالم، ولا تسعى لاستعادة مؤسساته، بل تكتفي برصده عن بُعد، عبر فتحة ضيقة في الشرنقة الصلبة، وتقنع بالوجود في حيزه البيولوجي الصارم لا أكثر. ويعبر الشاعر "أنطوني مدريد" عن هذه الحالة حين يرفع شعار: "اكتب لنفسك"، بديلاً لشعارات أخرى سادت زمناً طويلاً تدعو للكتابة من أجل تغيير المجتمع أو تغيير العالم.

 
 
 

Comentários


Featured Posts
Recent Posts
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic

FOLLOW ME

  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • c-youtube

© 2023 by Samanta Jonse. Proudly created with Wix.com

bottom of page