top of page

جدلية الماضي والحاضر في "رحلة الضباع"


نشر بجريدة القاهرة

يُنتج عنوان رواية الدكتورة "سهير المصادفة"؛ "رحلة الضباع" عدة توقعات في ذهن القارئ بشأن عالم الرواية، لما تثيره مفردة "رحلة" من استجابات، اعتماداً على المخزون المعرفي الجمعي، ترتبط بالحركة والانتقال الملحمي عبر المكان والزمن، وما تنطوي عليه هذه الحركة من مواجهات وسعي وبحث عن التحقق المادي أو الروحي. وتعمل مفردة "الضباع" على تحديد إطار الرحلة، والإيحاء بشراستها وضراوتها. ولا أظن أن ذهن المتلقي سيقف عند هذا الحد، بل سيحولها إلى معادل موضوعي، ويبحث في أكثر من اتجاه عن دلالات المفردة وارتباطاتها الشرطية داخل الرواية.

أهدت الدكتورة "سهير المصادفة" روايتها إلى عدد من الكتاب والمؤرخين وكتبهم، إلى جانب الإهداء الشخصي، وهو ما يوحي للقارئ أنه بصدد رحلة تاريخية على نحو ما، أو استدعاء قوي للماضي. وفي الصفحة التالية للإهداء تصدير للرواية بفقرة قصيرة عن الضباع أسطوري الطابع ولغته تراثية، وندرك بعد ذلك أن عتبات مشابهة تسبق كل المقاطع السردية للرواية. ومع السطر الأول يكتشف القارئ أن عالم الرواية يتناول اللحظة الراهنة، فيظل يبحث عن ما توقعه وانتظره ويظل يُطارد النص التاريخي الذي توقعه حتى يلتقي به.

تتناول "المصادفة" في "رحلة الضباع" اللحظة الراهنة بكل أزماتها السياسية، والاجتماعية والأخلاقية، وترصد الواقع الراكد الذي انتشر على سطحه الفساد والانتهازية والقمع بكافة أشكاله. وتتخذ من أحد المؤسسات الصحفية منصة لتتمكن من رصد شبكة العلاقات التراتبية الزائفة واللأخلاقية داخل المجتمع بشكل عام، وفي أوساط النخبة المصرية على وجه الخصوص. ولا تكتفي برصد حالة التردي الآنية، بل تبحث عن جذورها وأسبابها في التاريخ، والنبش في التاريخ في هذه الرواية ليس نوعاً من الحنين إلى الماضي أو استحضاراً لبعض لحظاته الذهبية، بل تسعى للغوص فيه في محاولة لفهم الحاضر ومن ثم علاجه. وهو ما يوحي بأن الحالة التي أصابت المجتمع المصري ليست طارئة أو ظرفية، ولا تقتصر على طبقة أو شريحة اجتماعية دون غيرها.

ولقد عملت ثنائية الماضي/ الحاضر على تشكيل بنية الرواية التي تتشكل من سبعة مقاطع سردية دون عنوان، إضافة إلى فصل بعنوان "رحلة الضباع"، يختلف جذريا في اللغة والرؤية والأحداث، حيث يتناول الماضي في شبه الجزيرة العربية وأحداثه الدموية، ويحتشد بالأساطير التي أسست للواقع الذي نعيشه، وما زالت تمارس سطوتها على الذهنية المصرية في القرن الحادي والعشرين، وفصل آخر بعنوان "في انسحاب المحبة"، ويشكل الفصلان معاً رواية داخل الرواية، حيث ترويهما "نرمين"؛ زوجة "جمال" الراوي الأصلي للرواية الأصلية. ولقد أتاحت هذه البنية للمؤلفة حرية الحركة بين الماضي والحاضر، حيث ظهرت الإشارات إلى الماضي في مقاطع قصيرة تتصدر المقاطع السردية، ثم ظهرت في ورقة وجده الزوج، وبدأ يُطارد ذلك النص التاريخي مطاردة بوليسية أو بالأحرى مباحثية، حتى عثر على مخطوطة غير مكتملة، واندفع في هوس للبحث عن كاتب النص وعن تكملته. كما أسهمت الحركة ذهاباً وإياباً بين الماضي والحاضر في تحقيق درجة عالية من التشويق.

ورغم سطوة ثنائية الماضي/ الحاضر، وتكنيك الرواية داخل رواية، تمكنت المصادفة من خلق فضاء روائي متماسك تتقدم فيه الحبكة بسلاسة مطلقة، وتتكشف ضفيرة العلاقات والصراعات النفسية والصراعات الواقعية المكتومة مع تقدم السرد نحو لحظة تتفجر فيها التناقضات الكامنة داخل شخصية الراوي"جمال"، والتي تلقي بظلالها على المجتمع بأسره. تعيش "جمال" ازدواجية حاكمة شديدة السطوة؛ فهو يعترف أكثر من مرة أنه صحفي فاشل، ومع ذلك يُطالب بالتقدير، يخشى زملاء العمل يسخر منهم سراً، يحب زوجته "نرمين" –محور حياته وبطلة الرواية- ويحتقرها، ويعاملها بسادية تعوض ضعفه. يرى فيها الصدق الذي يفضح زيفه، والجمال الذي يجسد قبحه؛ وكأنه تقمص شخصية إياجو حين قال عن عطيل "إن به جمالاً يجعلني قبيحاً" ويسعى إلى تدميرها نفسياً، وكأنه يدمر ذاته. تتحمل "نرمين" قسوة زوجها إلى حد الانسحاق، وتقوم بدور الخادمة والخليلة، وتكرس نفسها لتلبية رغباته، وفي ذات الوقت تعمل على خطة للتحرر منه، كرمز لسلطة ذكورية ومجتمعية قاهرة، في سرية تامة. ويكتشف "جمال" أن زوجته الغبية الخاضعة قرأت الكتب التي يستخدمها للزينة وأنتجت نصاً سردياً بدعياً يتجاوز قدراته المحدودة.

تلعب المعرفة دوراً محورياً في الصراع داخل الرواية؛ التي احتشدت بأسماء الكتب والشعراء والمقطوعات الموسيقية واللوحات والأفلام، حيث تشكل المعرفة تراتبية العلاقة بين الزوجين. فالزوج يشعر بسطوته وأوليته لأنه مثقف وقادر على استخدام أدوات العصر، ويظن أنه يلعب دوراً ثقافياً وينتج معرفة من خلال مقالاته. وتحاول الزوجة أن تمتلك تلك الأدوات وأن تنتج معرفة هي الأخرى لا لكي تقيم توازناً في العلاقة بينهما، ولكن لكي تتحرر. ويتلقى "جمال" صدمة تقوض عالمه وصورته عن ذاته حين يكتشف أن زوجته نجحت فيما فشل فيه هو، وأنها أكثر منه حضوراً وفاعلية. وتنتهي الرواية بانتصار حاسم لنرمين ولكل ما تمثله حين يرى صورتها بعد طلاقها منه على شاشة التليفزيون في برنامج ثقافي بين الحشود في ميدان التحرير، تساهم معهم في صنع المستقبل، بينما يستلقي هو على الأريكة مُكتفياً بدور المتفرج، ومُعلناً هزيمته، وتراجعه في التراتبية.

تضم الرواية عدة حبكات فرعية تشف عن ملامح التردي والانهيار، وتكشف عن المُلابسات التي أسهمت في تكوين ذهنية "جمال" وتركيبته الشخصية، عن علاقة ولادته بوالده، وتأثر أختيه بأفكار بلاد النفط، وتأثره بالأفكار السائدة عن المرأة كموضوع للتهميش والحجب عن الناس. تنسج "المصادفة" هي الشبكة من العلاقات والأحداث والذكريات ببراعة. وتعتمد على تكنيك التداعي الحر في سردها؛ حيث ينطلق فيض الذكريات في رأس "جمال" مع كل موقف أو حدث عابر. وتُجاور الروائية بين الحاضر، وبين شذرات الماضي المباشر (النفسي) لجمال، والماضي التاريخي للمجتمع وفق نسق يبدو للوهلة الأولى عفوياً، إلا أنه شديد الإحكام ويتضافر مع الإثارة المُحتدمة، والإيقاع المتراوح بين السرعة والبطء، من أجل صنع مسارات للقاريء داخل الفضاء الروائي.

وتفرض العلاقة الجدلية بين الماضي والحاضر سطوتها على الزمن الروائي، من أجل مواكبة الانتقال بين أزمنة وعوالم متباينة. تبدأ الرواية بعد انتهاء أحداثها، ويمتد زمن الرواية لعدة أشهر لينتهي مع انطلاق ثورة 25 يناير 2011. ونلاحظ اهتماماً بالزمن أثناء عملية مطاردة "جمال" النص الروائي، فهو يلح ويناور من أجل ساعة، أو نصف ساعة ليتمكن من البحث عن النص. كما يرصد بدقة عدد الساعات التي استغرقتها زوجته في الرواية (من خلال كاميرا مراقبة وضعها خلسة في المنزل)، ويسابق الزمن كي يباغتها. يضيف هذا الرصد للزمن الميكانيكي توتراً للصراع، وتصعيداً للإثارة. أما الزمن النفسي فيتحرك بهدوء وربما ببطء، حيث لا يطارد "جمال" الذكريات قدر ما تطارده هي. ويتحد الزمن الميكانيكي والزمن النفسي ليشكلا ضغطاً قوياً على جمال الذي يقترب من الشيخوخة ويريد أن ينجب طفلاً، ويدفعه إلى مزيد من الضغط على نرمين. وبينما يحتل جمال اللحظة الراهنة، تهيمن نرمين على الماضي وعلى المستقبل. فهي تعود إلى أساطير الماضي وتعيش فيها وتحاول التنقيب في مفرداتها من أجل القفز على المستقبل، الحاضر (الروائي) بالنسبة لها فترة مؤقتة؛ تدرك قصرها وتتكيف معها وتستخدمها في الإعداد للمستقبل. وأحد السمات المميزة لزمن الرواية هي استحضار المستقبل الروائي عن طريق تكنيك الاستباق من خلال عبارات ينطقها "جمال" مثل "سأكتشف بعد سنوات/ سأعرف/ سأدرك" وهو ما يتفق مع التداعي الحر الذي يكشف مكنونات عقله الباطن. إن الطريقة التي تمكنت بها "المصادفة" من إدارة الزمن والتحكم في إيقاعه عبر الرواية تُعد واحدة من أهم مميزات الرواية الكثيرة، ونجحت فيه إلى حد يثير الإعجاب.

وتطل ثنائية الماضي والحاضر في التشكيل اللغوي للرواية، فقد تعددت المستويات اللغوية وتداخلت بسبب الانتقال من الحاضر إلى الماضي، وما يتطلبه هذا الانتقال من تغيرات. وتمكنت "المصادفة" كالعادة من إقامة توازن رهيف بين الأداء الوظيفي والأداء الجمالي للغة. وتكتسي اللغة بمسحة من السخرية والتهكم، وتحتفي ببعض التعبيرات والتشبيهات عامية الطابع، كما استفادت من لحظات التدفق الشعوري لتحوم على تخوم الشعر؛ في المونولوجات الداخلية التي يفرغ بها "جمال" عقله الباطن، وهي كثيرة مقارنة بالحوارات التي عكست التواصل المفقود بينه وبين زوجته. وعندما نقع على صفحات من المخطوطة التي كتبتها نرمين، نطالع لغة أخرى بخلاف لغة الرواية الأصلية، لغة تراثية مكتنزة وقوية وصادمة، تحتفي بالألفاظ المعجمية القديمة، وتواكب غرائبية الأساطير. ولا تتيح الرواية مساحة للتعبير عن ذاتها سوى في فصل بعنوان "في انسحاب المحبة". نرى وجهة نظرها حين تسرد حياتها، وتخرج مكنوناتها، وتصف نفسها وتصف زوجها. كما يشير "جمال" إلى أن ثمة لغة جديدة يتحدث بها الشباب، لغة عملية مختصرة وقادرة على التعبير، في مقابل لغة جيله القديمة، العاجزة عن الأداء والتواصل الفعال. وهي إشارة واضحة إلى أن سطوة الماضي بدأت تتفكك، وأعلى مراحل هذا التفكك تجلت في لغة جديدة.

نرمين هي البطلة، ومع ذلك نراها معظم الوقت عبر عقل "جمال"، ونتعرف على ملامحها الجسمانية من وصفه لها، ونفهم تركيبتها النفسية من وصفه لردود أفعالها تجاهه، ونرى حركتها عبر شاشة الكمبيوتر الموصول بكاميرات المراقبة. نعرف أنها جميلة وغبية ومنسحقة، ونندهش مع "جمال" حين ندرك براعة خطتها، قدر ثقافتها وصلابتها. ولا ترمز نرمين إلى وضع المجتمع العربي إجمالاً أكثر من كونها رمزاً المرأة المصرية والعربية فقط. وتشير الرواية إلى موازة بين سعي نرمين من أجل التحرر وبين سعي الشعب المصري من أجل الانعتاق من أوضاع مزرية دامت لسنوات. وهناك تشابه في الطبيعة المتسامحة الصبورة لنرمين وللشعب المصري، كما أن حركتهما كانت صامتة والانفجار كان مباغتاً ومدوياً. وتحمل السطور الأخيرة من الرواية لحظة الانتصار والتحرر ونرمين تقف بين جموع الشعب المصري في ميدان التحرير؛ تلك اللحظة التي شهدت صراعاً قوياً بين الماضي والحاضر. لا تعد الرواية بانتصار ساحق على سطوة الماضي ورؤاه المتكلسة، ولكنها تؤكد بحسم أن جدل الماضي والحاضر هو انتصار للمستقبل.

Featured Posts
Recent Posts
Search By Tags
No tags yet.
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic
bottom of page