top of page

وفاة


وفاة

ستيفن كينج

ترجمة نصر عبد الرحمن

منشورة بمجلة إبداع سبتمبر 2015

يمتلك "جيم تراسدال" كوخاً في الجانب الغربي من مزرعة والده المُهملة، وهناك عثر عليه الشريف "باركلي"، ومعه ستة رجال من مواطني المدينة المندوبين لمعاونة الشرطة. كان يجلس على الكرسي الوحيد في الكوخ، إلى جوار الموقد البارد، وهو يرتدي معطفاً قذراً، ويقرأ عدداً قديماً من صحيفة "بلاك هيلز بيونير"، على ضوء قنديل؛ أو على الأقل يُطالعه فقط. وقف الشريف "باركلي" في الممر، يكاد يغلقه بجسده. كان يحمل قنديلاً هو الآخر. قال: "اخرج يا "جيم"، اخرج رافعاً يديك إلى أعلى. لست أشهر مسدسي، ولا أرغب في ذلك".

خرج "تراسدال" وهو يمسك الصحيفة بإحدى يديه المرفوعتين. وقف يتأمل الشريف بعينيه الرماديتين. بادله الشريف النظرة هو ومن معه؛ أربعة منهم يمتطون الجياد، واثنان يجلسان على مقعد عربة مطبوع على أحد جانبيها عبارة "هاينز للجنازات" بحروف صفراء باهتة. قال الشريف "باركلي": "لاحظت أنك لا تسأل عن سبب حضورنا إلى هنا"

- لماذا حضرتم إلى هنا، أيها الشريف؟

- أين قبعتك، يا جيم؟

وضع "تراسدال" يده التي لا تمسك الصحيفة على رأسه، وتحسس رأسه بحثاً عن قبعته المُسطحة بنية اللون؛ والتي لم تكن موجودة فوق رأسه.

سأله الشريف: أهي بالداخل؟

هبت رياح باردة تتجه جنوباً، داعبت شعر الخيل، وجعلت العشب يتماوج.

أجاب "تراسدال": "كلا، لا أعتقد أنها بالداخل".

- وأين هي إذن؟

- ربما ضاعت.

قال الشريف: "عليك ركوب العربة".

فقال "تراسدال": "لا أود الذهاب في عربة جنازات، إنها تجلب النحس".

قال أحد الرجال: "النحس يطاردك على الدوام، أنت موحول فيه. هيا اصعد إلى العربة".

اتجه "تراسدال" ناحية مؤخرة العربة، وقفز داخلها. هب الرياح من جديد بقوة أكثر، وقلبت ياقة معطفه.

نزل الرجلان من مقعد العربة، ووقفا على جانبيها. شهر أحدهما مسدسه، بينما لم يفعل الآخر مثله. كان "ترانسدال" يعرف وجهيهما ولكن لا يعرف اسميهما؛ إنهما من أهل البلدة. دخل الشريف والأربعة الآخرون إلى الكوخ، كان أحدهم هو "هاينز" الحانوتي. مكثوا هناك بعض الوقت، وبحثوا بدقة حتى أنهم فتحوا الموقد ونبشوا في الرماد، ثم خرجوا في النهاية.

قال الشريف "باركلي": "القبعة غير موجودة. تأكدنا من ذلك. إنها قبعة كبيرة لعينة.. هل لديك ما تقول بهذا الشأن؟"

- من المؤسف إنني فقدتها. لقد أعطاها لي أبي قبل أن يُصاب بالجنون.

- أين هي، إذاً؟

- قلت لك، ربما ضاعت، أو سُرقت. ربما حدث هذا. لقد كنت على وشك النوم.

- لا تفكر في النوم الآن، هل كنت في البلدة ظهر اليوم؟

تدخل أحد الرجال قائلاً: "بالطبع كان في البلدة، ثم أضاف: لقد رأيته بنفسي، وكان يرتدي تلك القبعة".

قال الشريف "باركلي": "اصمت، يا ديف. هل كنت في البلدة يا جيم".

قال "تراسدال": "أجل، يا سيدي".

- في بار "شاك لاك"؟

- أجل يا سيدي، كنت هناك. ذهبت من هنا إلى هناك سيراً على الأقدام، وتناولت كأسين، ثم رجعت. أعتقد أنني فقدت قبعتي هناك.

- أهذا ما حدث؟

نظر "تراسدال" إلى سماء نوفمبر الداكنة، وقال: "أجل، هذا ما حدث".

- انظر إليّ يا بٌني.

نظر تراسدال إليه.

- أهذا ما حدث؟

أجاب "تراسدال"، وهو ينظر إليه: "قلت لك، هذا ما حدث".

تنهد الشريف "باركلي"، وقال: "حسناً، هيا بنا إلى البلدة".

- لماذا؟

- أنت موقوف.

تدخل أحد الرجال قائلاً: أليس لديك عقل في رأسك اللعين. إنه مصدر فخر لأبيه.

ذهبوا إلى البلدة التي تبعد مسافة أربعة أميال. ركب "تراسدال" في عربة الجنازات، وارتجف من البرد. قال الرجل الذي يمسك اللجام، دون أن يستدير إلى الخلف: "هل اغتصبتها وسرقت الدولار الفضي الذي كان بحوزتها، أيها القذر؟"

فقال "تراسدال": "عن أي شيء تتحدث؟"

ساد بعدها صمت طوال الرحلة، لم يقطعه سوى صوت الرياح. وفي البلدة، كان الناس يصطفون في الشوارع. كانوا هادئين في البداية، ثم انطلقت سيدة عجوز، ترتدي شالاً بُني اللون، خلف العربة وهي تعرج، وبصقت على تراسدال. أخطأته البصقة، ولكن ما فعلته المرأة لاقى استحسان الواقفين.

قام الشريف "باركلي" بمساعدة "تراسدال" على النزول من العربة أمام القسم. كانت الرياح قوية، وتنذر بسقوط الثلوج. وكانت الأعشاب الجافة تتدحرج على الأرض في الشارع الرئيسي، وتتجه نحو برج المياة؛ وتتكوم إلى جانب سياج إحدى الحفر، وتقعقع.

هتف رجل: "اشنقوا قاتل الأطفال"، وألقى أحدهم حجراً، لكنه لم يُصب رأس "تراسدال"، وارتطم بالممر الخشبي.

استدار الشريف "باركلي" ورفع القنديل عاليا ليتفحص وجوه الواقفين الذين احتشدوا أمام المتجر. قال لهم: "لا تفعلوا هذا، لا ترتكبوا حماقة.. إنه بين أيدينا".

أمسك الشريف ذراع "تراسدال"، وعبر المكتب، متجهاً إلى الحجز، حيث توجد زنزانتان. ذهب به إلى الزنزانة على اليسار. بها سرير صغير ومقعد خشبي وسلة قمامة. جلس "تراسدال" على المقعد، فقال له "باركلي": "كلا. قف هناك"

استدار الشريف، ورأى الحشد الذي يقف عند مدخل الباب، وقال: "اخرجوا جميعاً من هنا". فقال الرجل الذي يحمل اسم "دايف": "ولكن، ماذا لو هاجمك، يا أوتس؟".

- سوف أخضعه بالقوة. أشكرك على القيام بواجبك. ولكن عليك أن تنصرف الآن.

عندما شرعوا في الانصراف، قال "باركلي": "اخلع معطفك، وناولني إياه".

خلع “تراسدال” معطفه، وبدأ يرتجف. لم يكن يرتدي تحته سوى قميص خفيف وبنطال ناحل، بهتت صبغته عند الركبتين. قام الشريف بتفتيش جيوب المعطف، وعثر على بعض التبغ الملفوف في إحدى أوراق كتالوج شركة سيرز للساعات، كما عثر على ورقة يانصيب، جائزتها مبلغ بالبيسو المكسيكي، كما عثر كذلك على بلية سوداء.

قال “تراسدال”: "تلك بلية الحظ، معي منذ طفولتي".

- أخرج ما جيوب بنطالك.

أخرج “تراسدال” ما في جيوب البنطال. كان معه بنس واحد، وثلاث قطع نقدية فئة الخمس بنسات، وقصاصة مطوية من صحيفة عن سباق نيفادا، تبدو قديمة مثل ورقة اليانصيب المكسيكية.

- اخلع نعليك.

خلعهما “تراسدال”، ونظر الشريف "باركلي" بداخلهما. هناك ثقب في نعل فردة منهما في حجم قطعة العشر سنتات.

- والآن، اخلع جواربك.

قلبهما "براكلي"، ونفضهما.

- أنزل بنطالك.

- لا أريد.

- وأنا لا أطيق رؤية ما تحته. أنزله على أي حال.

أنزل “تراسدال” بنطاله. لم يكن يرتدي شيئاً تحته.

- استدر وباعد بين ردفيك.

استدار “تراسدال”، وشد وركيه ليباعد بين ردفيه. أجفل الشريف "باركلي"، وتنهد، ثم دفع إصبعه في مؤخرة “تراسدال”؛ فتأوه. أخرج "باركلي" إصبعه، وأجفل مرة أخرى، بسبب المادة اللزجة على إصبعه، ومسحها في قميص “تراسدال”.

- أين هي يا جيم؟

- قبعتي؟

- أتظن أنني كنت أبحث في مؤخرتك، وفي رماد الموقد عن قبعتك؟ هل تتحاذق؟

رفع “تراسدال” بنطاله، وأغلق أزراره، ثم وقف يرتجف وهو حافي القدمين. كان في منزله منذ ساعة فقط، يقرأ الصحيفة ويُفكر في إشعال الموقد، ولكن بدا له أن هذا حدث منذ زمن طويل.

- قبعتك في مكتبي.

- ولماذا تسألني عنها؟

- لأعرف ماذا ستقول. القبعة في أمان. ما أرغب في معرفته هو أين أخفيت الدولار الفضي الذي كان بحوزة الطفلة. ليس في منزلك، ولا في جيوبك، ولا في مؤخرتك. هل شعرت بالذنب وتخلصت منه؟

- لا أعلم شيئاً عن دولار فضي. أيمكن أن أستعيد قبعتي؟

- كلا، إنها دليل ضدك، يا "جيم تراسدال". أنا ألقي القبض عليك بتهمة قتل "ريبكا كلاين". ألديك ما تقول بهذا الشأن؟

- أجل، يا سيدي. أنا لا أعلم من تكون "ريبكا كلاين".

غادر الشريف الزنزانة، وجذب بابها، ثم التقط مفتاحاً مُعلقاً على الحائط، وأغلق الباب به. وصدر صرير عن لسان القفل وهو يدور. في العادة، تأوي الزنزانة المخمورين فقط، ونادراً ما كانت تغلق بالمفتاح. نظر الشريف إلى “تراسدال” وقال له: "أشعر بالإشفاق عليك، يا جيم. حتى الجحيم ليس عقاباً كافياً لمن يقوم بمثل تلك الجريمة".

- أية جريمة؟

ابتعد الشريف دون أن يجيب سؤاله.

ظل “تراسدال” في الزنزانة، يأكل طعاماً سيئاً من مطعم "مازرز بيست"، وينام على السرير الصغير، ويتبول في دلو يتم تفريغه كل يومين. لم يذهب والده لزيارته، فقد أصابه الخرف بعد أن تجاوز الثمانين من العمر، وتعتني به امرأتان من الهنود الحُمر؛ واحدة من قبيلة السو، والأخرى من قبيلة شياني. كانتا تقفان أحياناً في رواق مبنى العُمال المهجور، وترتلان معاً في تناغم. شقيقه في نيفادا يبحث عن الذهب.

وكان الأطفال يقفون أحياناً في الممر خارج الزنزانة ويهتفون: "هيا هيا، اشنقه يا جلاد". وأحياناً كان يقف الرجال هناك ويتوعدونه ببتر عضوه التناسلي. وحضرت والدة "ربيكا كلاين" مرة واحدة، وأعلنت أنها ستشنقه بنفسها إذا سمحوا لها بذلك. وسألته عبر قضبان النافذة: "كيف استطعت قتل طفلة؟ لقد كانت في العاشرة من عمرها. قتلها يوم عيد ميلادها".

قال “تراسدال”، وهو يقف على السرير وينظر إلى أسفل نحو وجهها: "سيدتي، لم أقتل طفلتك، ولم أقتل أحداً على الإطلاق". فقال له قبل أنت ترحل: "أنت كاذب حقير".

حضر جميع أهل القرية تقريباً جنازة الطفلة. حضرتها السيدتان الهنديتان. وحضرتها العاهرتان اللتان تعملان في بار "شاك لاك". سمع "“تراسدال”" صوت الترنيم من زنزانته، ثم جلس على الدلو في الزاوية.

أرسل الشريف "باركلي" برقية إلى مدينة "فورت بيير"، وبعد أسبوع أو نحوه، وصل قاضٍ مُتجول. كان حديث العهد بالوظيفة، وكان مُتأنقاً، وله شعر طويل مرسل على ظهره مثل المغامر الشهير "وايلد بيل هيكوك". اسمه "روجر ميزل". يضع على عينيه نظارة ذات عدسات صغيرة ومُستديرة. بدا عليه الاهتمام بالنساء في كل من بار "شاك لاك"، وفي مطعم "مازرز بيست"، رغم أن في يرتدي خاتم زواج.

لم يكن هناك مُحام في البلدة ليتولى الدفاع عن "تراسدال"، لذلك قام "ميزل" باستدعاء "جورج أندروز" صاحب المتجر، والنُزل، وفندق "جود ريست". درس "أندروز" لمدة عامين في مدرسة عُليا للتجارة في إحدى ولايات الشرق. قال إنه سيوافق على الدفاع عنه إذا وافق كل من السيد والسيدة "كلاين".

قال له "ميزل": "اذهب إليهما إذاً، ولكن بسرعة". كان يجلس عند الحلاق، وقد طرح ظهره على المقعد كي يحلق لحيته.

قال السيد "كلاين"، بعد أن ذكر له "أندروز" مهمته: "حسناً، لدي سؤال، إن لم يُدافع عنه أحد، هل سيُعرقل هذا إعدامه؟"

فأجاب "أندروز": "هذا ليس من العدالة الأمريكية، ورغم أننا لسنا من تلك الولايات بعد، إلا أننا سننضم إليها قريباً".

قال السيدة "كلاين": "هل يمكن أن يفلت من العقاب؟".

أجاب "أندروز": "كلا، يا سيدتي. ليس له من مفر".

قالت السيدة "كلاين": "قم بواجبك إذاً، وليباركك الرب".

استمرت المُحاكمة ذات صباح أحد أيام نوفمبر، حتى قرب الظهيرة. عُقدت الجلسة في قاعة المجلس المحلي، وتساقط جليد رائع، كأنه أشرطة زينة حفل زفاف. تقدمت السحب الرمادية الكثيفة نحو البلدة، مهددة بعاصفة عاتية. قام "روجر ميزل"، الذي تعرف على القضية جيداً، بدور وكيل النيابة، إلى جانب كونه القاضي.

وصفه أحد أعضاء هيئة المُحلفين أثناء استراحة الغذاء في مطعم "مازرز بيست"، قائلاً: "كأنه موظف في بنك، يقترض من نفسه، ويُسدد لنفسه فائدة القرض". ورغم أن أحداً لم يُعارض كلامه، لم يعترض أحد على ما فعله القاضي، فهو في النهاية نوع من أنواع التوفير.

استدعى وكيل النيابة "ميزل" نصف دستة من الشهود، ولم يعترض القاضي "ميزل" مرة واحدة على طريقته في استجوابهم. كان السيد "كلاين" هو أول الشهود، والشريف "باركلي" هو آخرهم. كانت القصة التي نجمت عن استجوابهم واضحة للغاية. في ظهيرة يوم مقتل "ربيك كلاين"، أقيم حفل عيد ميلاد، به الحلوى والمثلجات، وحضره العديد من أصدقاء "ريبكا". قرابة الساعة الثانية ظهراً، بينما كانت الطفلة تلعب لعبة وضع ذيل الحمار في المكان الصحيح، ولعبة الكراسي الموسيقية، دخل "“تراسدال”" بار "شاك لاك"، وطلب كأساً من الويسكي. كان يرتدي قبعته المُسطحة. احتسى الكأس على مهل، وحين انتهى منه طلب كأساً آخر.

لا يذكر أي من الشهود إذا ما كان قد خلع قبعته في أي وقت، أو وضعها على المشجب عند الباب. وقال عامل البار؛ "دال جيرارد": "لم أره دون قبعته. كان مولعاً بتلك القبعة. وإذا كان قد خلعها، فسوف يضعها أمامه على البار. تناول الكأس الثاني ثم رحل".

سأله "ميزل": "هل كانت القبعة في البار عندما غادر؟".

- كلا، يا سيدي.

قرابة الساعة الثالثة من ذلك اليوم، غادرت "ربيكا كلاين" منزلها الذي يقع في الجانب الجنوبي من البلدة، وذهبت إلى الصيدلية في الشارع الرئيسي. أخبرتها أمها أنها تستطيع شراء الحلوى بدولار عيد الميلاد، ولكن يجب ألا تأكلها، لأنها أعدت الكثير من الحلوى لذلك اليوم.

وعندما حلت الساعة الخامسة، ولم تعد إلى المنزل، بدأ السيد "كلاين"، ومعه بعض الرجال، عملية البحث عنها. عثروا عليها في زقاق "باركر"، بين مخزن الطعام، وفندق "جود ريست". كانت قد تعرضت للخنق. واختفى الدولار الفضي الذي كان بحوزتها. وعندما حملها والدها المفجوع، رأى الرجال قبعة "تراسدال" الجلدية، ذات الحافة العريضة. كانت تختفي تحت تنورة ثوب الفتاة الخاص بعيد الميلاد.

وأثناء تناول المُحلفين وجبة الغذاء، سُمع صوت طرق عند المخزن الذي لا يبعد سوى تسعين خطوة عن موقع الجريمة. كان صوت تجهيز المشنقة. كان أفضل نجاري البلدة؛ السيد "جون هاوس"، يُشرف على العمل. تساقطت قطع كبيرة من الثلج، مما تسبب في إغلاق الطريق المؤدي إلى "فورت بيير" لفترة قد تقارب الأسبوع، وقد يمتد الأمر الشتاء بطوله. ولم يكن هناك استعداد لحبس "تراسدال" حتى الحبس المحلي حتى حلول الربيع. كان في هذا تكلفة بلا داعي.

قال "هاوس" لمن حضروا لمُشاهدته: "بناء مشنقة ليس أمراً مُهماً، يمكن لأي طفل بناء واحدة".

شرح لهم طريقة عمل لسان الرافعة تحت الطبلية التي يقف عليها المحكوم عليه بالإعدام، وكيف يتم تشحيم المحور حتى لا يحدث تعطل في اللحظة الأخيرة. ثم أضاف: "إذا كان عليك تنفيذ أمر كهذا، فعليك القيام به بالطريقة الصحيحة من المرة الأولى".

وفي الظهيرة، طلب "جورج أندروز" من "تراسدال" الوقوف على منصة الشهود. تسبب هذا في بعض الهمس بين الحضور، أخمده القاضي "ميزل" حين هدد بإخلاء القاعة إن لم يلتزم الحضور بحسن التصرف.

بعد أن عاد الهدوء إلى القاعة، سأله "أندروز": "هل دخلت بار شاك لاك، في يوم الجريمة؟".

أجاب "تراسدال": "أظن هذا، وإلا لما كنت هنا الآن".

ضحك الحضور عند سماع ذلك، مما جعل القاضي "ميزل" يستخدم المطرقة، رغم ابتسامه هو الآخر، لكنه لم يُصدر تحذيراً جديداً.

- هل شربت كأسين؟

- أجل، يا سيدي. لم يكن معي سوى ثمن كأسين فقط.

هتف "أبل هاينز": "لكنك حصلت على دولار إضافي بسرعة، أليس كذلك أيها الكلب؟".

أشار "ميزل" بمطرقته إلى "هاينز" في البداية، ثم إلى الشريف "باركلي"؛ الذي كان يجلس في الصف الأول، وقال له: "أيها الشريف، من فضلك، أخرج هذا الرجل من القاعة، وافرض عليه غرامة الإخلال بنظام القاعة".

أخرجه الشريف من القاعة، ولم يفرض عليه الغرامة، بل سأله عن ما يعتمل بداخله. فقال "هاينز": "أعتذر، يا أوتس، تخيلته مُتدلياً من المشنقة، دون أن نغطي وجهه حتى".

- اذهب حتى نهاية الشارع، وساعد "هاوس" في عمله. لا ترجع إلى هنا مرة أخرى حتى تنتهي هذه الفوضى.

- هناك من يساعدون "هاوس"، كما أن الثلج يتساقط.

- لن يطمرك الثلج، هيا اذهب.

وفي تلك الأثناء، استمر "تراسدال" في الإدلاء بشهادته، وقال إنه ترك البار وهو يعتمر قبعته، ولم يدرك ضياعها حتى وصل إلى منزله، وكان حينها مُتعباً فلم يعد إلى البلدة بحثاً عنها، كما كان الليل قد حل.

تدخل "ميزل" قائلاً: "هل تريد من المحكمة أن تصدق أنك سرت مسافة أربعة أميال دون أن تلاحظ ضياع القبعة اللعينة؟".

- ظننت أنها على رأسي من كثرة ارتدائي لها.

أثارت كلماته موجة جديدة من الضحك، وحين عاد الشريف إلى مكانه، سأل "دايف فيشر" عن سبب الضحك. قال له: "أقسم أننا لا نحتاج إلى جلاد، سيشنق هو نفسه بنفسه. لم أتصور أن يكون الأمر مدعاة للضحك، ولكنه كوميدي للغاية".

سأل "أندروز" بصوت مرتفع: "هل قابلت ريبكا كلاين في ذلك الزقاق؟"، وقد أدرك، وكل العيون مُسلطة عليه، أن بداخله نزعة مسرحية، ثم سأل من جديد: "هل قابلتها وسرقت منها دولار عيد ميلادها؟".

- كلا، يا سيدي.

- هل قتلتها؟

- كلا، يا سيدي. أنا لا أعرفها حتى.

نهض السيد "كلاين" من فوق مقعده، وصرخ: "لقد قتلتها يا ابن العاهرة". قال "تراسدال": "أنا لا أكذب"، ولحظتها صدقه الشريف "باركلي".

قال "أندروز" وهو يعود إلى مقعده: "ليس لدي أسئلة أخرى"، وشرع "تراسدال" في النهوض، إلا أن القاضي طلب منه البقاء في مكانه كي يجيب على بعض الأسئلة.

- سيد تراسدال، هل تظن أن أحدهم سرق قبعتك وأنت في بار شاك لاك، وذهب إلى الزقاق، وقتل ربيكا كلاين، وترك القبعة هناك من أجل توريطك؟

ظل "تراسدال" صامتاً.

- أجب على السؤال، يا سيد “تراسدال”.

- لا أعلم معنى كلمة "توريط" يا سيدي.

- هل تعتقد أن أحدهم حاول الإيقاع بك في تلك الجريمة البشعة؟

فكر "تراسدال" قليلاً وهو يشبك أصابعه معاً، وقال في النهاية: "ربما أخذها أحد عن طريق الخطأ، ثم ألقى بها في الشارع".

نظر القاضي إلى الجمع الساهم: "هل أخذ أحد الحضور هنا قبعة السيد “تراسدال” عن طريق الخطأ؟"

ساد صمت لا يقطعه سوى ارتطام حبيبات الثلج بالنوافذ. لقد بدأت العاصفة الكبيرة الأولى في هذا الشتاء. أطلق أهل البلدة على هذا الشتاء اسم "شتاء الذئاب"، لأن الذئاب كانت تهبط من التلال في جماعات، وتبحث عن طعام في القمامة.

قال "ميزل": "ليس لدي أسئلة أخرى، ولن نصدر بياناً ختامياً نظراً إلى سوء الأحوال الجوية. وسوف تتدارس هيئة المُحلفين الحُكم. أيها السادة، لديكم ثلاث خيارات: بريء، قتل غير مُتعمد، وقتل من الدرجة الأولى".

اتجه الشريف و"ايف فيشر" إلى بار "شاك لاك"، وانضم إليهما "هاينز" وهو ينفض حبيبات الثلج عن معطفه. قدم لهما "دال جيرارد" بيرة مجانية.

قال "باركلي": "ربما لم يعد لدى ميزل المزيد من الأسئلة، لكن ما زال لدي سؤال. بعيداً عن القبعة، إذا كان “تراسدال” قتلها، فكيف لم نتمكن من العثور على الدولار الفضي؟"

قال "هاينز": "لأنه خاف، وتخلص منه".

- لا أعتقد، إنه غبي، وإن كان قد حصل على الدولار، لعاد على الفور إلى البار، ودفعه ليشرب المزيد من الخمر.

سأل "دايف": "ماذا تقول؟ أتظن أنه بريء؟"

- أقصد أنني أتمنى أن نعثر على هذا الدليل.

- ربما سقط من فتحة في جيبه.

قال "باركلي" وهو يجرع بعض البيرة: "ليس في جيوبه فتحات، ليس هناك سوى ثقب في حذاءه. وليس كبيراً لينفذ منه دولاراً".

كان للأعشاب التي تتدحرج على الثلج شكل العقول البشرية، ولكن ذات طابع شبحي.

استغرق اجتماع المُحلفين ساعة ونصف الساعة، وقال "كيلتون فيشر": "لقد وافقنا على شنقه مع أول تصويت، لكننا انتظرنا بعض الوقت حتى يخرج الموضوع بالشكل اللائق.

توجه القاضي بالسؤال إلى "تراسدال" حول إذا ما كان لديه تعقيب على الحكم الذي صدر بحقه. فقال "تراسدال": "ليس لدي ما أقول. فقط، أنا لم أقتل تلك الطفلة".

استمرت العاصفة لمدة ثلاثة أيام. سأل "هاوس" الشريف "باركلي" عن تقديره لوزن "تراسدال"، فقال إنه قرابة واحد وأربعين رطلاً. صنع "هاوس" دُمية من قماش الجود، وملأها بالحجارة، ووزنها على ميزان الفندق، حتى وصل الوزن إلى واحد وأربعين رطلاً. بعدها، قام بشنق الدُمية أمام نصف سكان البلدة؛ الذين وقفوا ليُشاهدوه بين كومات الجليد. ونجحت المُحاولة.

تحسن الطقس قبل تنفيذ الإعدام بليلة واحدة. وقام الشريف "باركلي" بإخبار "تراسدال" أنه سيحضر له أي شيء يريد ليتناوله على العشاء، فطلب "تراسدال" شريحة لحم مشوية وبيض. وبطاطس مقلية ومغموسة في المرق. دفع "باركلي" ثمن العشاء من ماله الخاص، وجلس على مكتبه يُنظف أظافره، ويستمع لصوت السكين والملعقة وهي تتحرك على طبق "تراسدال". وعندما توقف الصوت، دخل "باركلي" إليه، واكتشف أن الطبق نظيف للغاية، كأن "تراسدال" لعق المرق كما تفعل الكلاب. كان يبكي، وهو يقول: لقد خطر لي شيء.

- ما هو، يا جيم؟

- إذا شنقوني في الغد، سأذهب إلى القبر وفي معدتي بيض ولحم مشوي. لن يتسنى لي إخراجها.

صمت "باركلي" لبرهة، لا يدري ما يقول. لم ترعبه الفكرة قدر ما أرعبه أن يفكر "تراسدال" فيها، ثم قال: امسح أنفك.

مسح "تراسدال" أنفه.

- اسمعني جيداً، يا جيم. لأن هذه هي فرصتك الأخيرة. لقد ذهبت إلى البار في الظهيرة. لم يكن هناك الكثير من الناس حينها، أليس كذلك؟

- أظن هذا.

- من أخذ قبعتك؟ أغلق عينيك وتذكر. استرجع ما حدث، تخيل أنك تراه.

أغمض "تراسدال" عينيه، بينما انتظر "باركلي". وفي النهاية فتح عينيه، كانتا حمراوان بسبب الدموع، وقال: "لا أستطيع حتى تذكر إن كنت قد ارتديتها فعلاً أم لا".

تنهد "باركلي"، وقال: "ناولني الطبق، واحترس حتى لا يسقط السكين. ناوله "تراسدال" الطبق عبر القضبان، وعليه الشوكة والسكين، وقال له إنه يرغب في احتساء بعض البيرة. فكر "باركلي" في الأمر قليلاً، ثم ارتدى معطفه، ووضع القبعة العريضة على رأسه، وسار ناحية بار "شاك لاك"، حيث حصل على كوب صغير من البيرة من "ديل جيرارد". كان الحانوتي "هاينز" على وشك الانتهاء من كأس الخمر، وتبع "باركلي" إلى الخارج.

قال "باركلي": "الغد يوم حافل. لم يتم تنفيذ حكم إعدام هنا منذ عشر سنوات، وأتمنى ألا يحدث إعدام آخر لمدة عشر سنوات أخرى. سأكون ساعتها قد تقاعدت. كم أتمنى لو أنني متقاعد الآن".

رمقه "هاينز" وهو يقول: "لا تعتقد حقاً أنه قتلها!"، فأجابه: "إن لم يكن هو القاتل، فثمة قاتل يتجول بيننا".

كان تنفيذ حكم الإعدام في التاسعة صباحاً. كان الهواء عاصفاً، والبرودة قارصة، إلا أن أغلب أهل البلدة خرجوا لمشاهدة الإعدام. وقف القس "راي رولز" على المنصة إلى جوار "هاوس"، كانا يرتجفان رغم ما يرتديان من معاطف وأوشحة. كان الهواء يقلب صفحات الإنجيل الذي يمسك به القس. كما رفرفت طاقية من الصوف المصبوغ باللون الأسود، وضعها "هاوس" في حزامه. قام "باركلي" باقتياد "تراسدال"، ويداه في الأصفاد خلف ظهره. كان مُتماسكاً حتى صعد درجات السلم، وشرع بعدها في البكاء ومحاولة التملص. وقال: "لا تفعلوا هذا، أتوسل إليكم لا تفعلوا هذا بي. أتوسل إليكم ألا تقتلوني".

كان قوياً بالنسبة لحجه الصغير، فأشار "باركلي" إلى "ديف فيشر" كي يساعده. تمكنا معاً من السيطرة عليه وإجباره على الانحناء، ودفعه ليصعد درجات السلم الخشبي. حاول التملص فجأة، وكاد أن يسقط معهما عن المنصة، وارتفعت أيدي الواقفين لتمسك بهم إذا سقطوا.

صاح أحد الواقفين: "واجه الموت مثل الرجال".

هدأ "تراسدال" لبرهة على المنصة، ولكن بدأ يصرخ حين شرع القس في قراءة المزمور 51. وصفه أحدهم فيما بعد، في البار قائلاً: "كان يصرخ مثل امرأة وضعوا حلمة ثديها في عصارة".

قرأ القس، وهو يرفع صوته حتى يعلو على صرخات المحكوم عليه: "ارحمني يا الله حسب رحمتك. حسب كثرة رأفتك. امح معاصي".

وعندما رأى "تراسدال" "هاوس" وهو يُخرج القبعة السوداء من حزامه، بدأ يلهث مثلما تفعل الكلاب. وحرك رأسه يميناً ويساراً، هرباً من وضع القبعة على وجهه. أصبح شعره أشعثاً، وتابع "هاوس" حركات رأسه بصبر، كأنه رجل يهدف إلى وضع اللجام لحصان هائج.

صرخ "“تراسدال”" صرخة مُدوية: "دعوني أنظر إلى الجبال! سأشعر بالارتياح إن تركتموني أنظر إلى الجبال مرة واحدة!"، والمخاط يسيل من فتحتي أنفه. إلا أن "هاوس" وضع القبعة على رأسه، وجذبها بقوة حتى وصلت إلى كتفيه المرتجفين. كان القس يترنم، و"تراسدال" يحاول الابتعاد عن طبلية الإعدام. دفعه "باركلي" و"فيشر" إليها مرة أخرى. وهتف صوت من بين الجمهور: "اهزمهم يا راعي البقر". طلب "باركلي" من القس الانتهاء من الصلاة. "أتوسل إليك قل آمين". قال القس "آمين، وتراجع إلى الخلف، وهو يغلق الإنجيل بقوة.

أومأ "باركلي" إلى "هاوس". سحب "هاوس" الرافعة، فانفتحت الطبلية، وسقط "تراسدال"، وظهر صوت كسر الرقبة. انقبضت قدماه إلى أعلى حتى بلغتا مستوى ذقنه، ثم ترنحتا. وتلطخ الجليد تحت قدميه ببقع صفراء.

صاح والد "ريبكا": "ها أنت تموت وأنت تتبول مثل كلب يحترق، إلى الجحيم أيها الوغد".

صفق قليل من الواقفين، وظل الجميع حتى تم حمل "تراسدال"، وما زالت القبعة تغطي وجهه، ووضعه في نفس العربة التي ركبها في الطريق إلى البلدة، ثم انصرفوا.

عاد "باركلي" إلى القسم، وجلس في زنزانة "تراسدال" لمدة عشر دقائق. كان البرد شديداً لدرجة أنه كان يرى بخار الماء مع أنفاسه. كان يعرف ماذا ينتظر، وأخيراً أقدم عليه. التقط الدلو الصغير الذي تقيأ فيه "“تراسدال”" آخر مرة، بعد أن شرب البيرة، ثم ذهب إلى مكتبه وأشعل الموقد.

ظل هناك لمدة ثمانية ساعات، يحاول أن يقرأ كتاباً، عندما حضر "أبل هاينز". قال له: "عليك الحضور إلى حجرة تجهيز الموتى، يا أوتس. هناك شيء أود أن تراه".

- ما هو؟

- يجب أن تراه بنفسك.

سارا معاً حتى مكتب "هاينز للجنازات والدفن". كان "تراسدال" يرقد عارياً فوق لوح خشبي في الحجرة الخلفية. بالحجرة رائحة مواد كيميائية ورائحة غائط.

قال "هاينز": "إنهم يتبرزون عندما يموتون على هذا النحو. حتى من يذهبون إلى المشنقة دون خوف. لا يمكنهم السيطرة على أنفسهم. ترتخي العضلة العاصرة".

- ثم؟

- اقترب هنا. أظن أن رجلاً يعمل في وظيفتك قد رأى من قبل أشياء أبشع من سروال به بعض البراز.

كان السروال مكوماً على الأرض، وهناك شيء يومض في البراز. انحنى "باركلي" أقرب، ورأى أنه دولار فضي. مد يده والتقطه من البراز.

قال "هاينز": "لا أفهم ما حدث، لقد تم حبس الوغد فترة طويلة من الزمن. جلس "باركلي" على مقعد في أحد أركان الحجرة، وتنهد تنهيدة قوية، ثم قال: "لا بد أنه ابتلعه عن عرف بقدومنا، وكلما خرج من جوفه، كان يقوم بتنظيفه وابتلاعه من جديد".

حدق الرجلان أحدهما في الآخر.

قال "هاينز" في النهاية: "لقد صدقت أنه بريء".

- كنت أحمقاً، أليس كذلك؟

- ربما يكشف هذا عن شخصيتك، أكثر من مما يكشف عن شخصيته.

- لقد أصر على أنه بريء حتى النهاية، وربما وقف أمام الرب وقال نفس الكلام.

- أجل.

- لا أفهم. كان سيُشنق على أي حال. لماذا لم يعترف، أنا لا أفهم.

- وأنا لا أفهم لماذا تشرق الشمس. ماذا ستفعل بالدليل؟ هل ستعطيه إلى والدي الطفلة؟ من الأفضل ألا تفعل، لأن....

هز "هنز" كتفيه. لأن عائلة "كلاين" تعرف أنه القاتل. كل أهل البلدة كانوا يعرفون أنه القاتل. "باركلي" هو الوحيد الذي لم يعرف ذلك. كان أحمقاً.

هبت الرياح من جديد، وحملت معها صوت غناء؛ غناء قادم من الكنيسة، كانوا يتلون صلاة الشكر.


Featured Posts
Recent Posts
Search By Tags
No tags yet.
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic
bottom of page