top of page

موسى

موسى

كمال داوود

ترجمة نصر عبد الرحمن

منشورة بمجلة إبداع، عدد يوليو

كان أخي الأكبر موسى مختالاً بنفسه. كان طويلاً إلى حد ما، ونحيل الجسد. أكسبه الجوع صلابة، وقوة نابعة من الغضب. له وجه بارز العظام، ويدان كبيرتان توفران لي الحماية، وعينان نافذتان ورثهما من أسلافنا الذين فقدوا أرضهم. عندما فكرت في الأمر، اعتقدت أنه أحبنا بذات الطريقة التي أحبنا بها الموتى.. لم يُعبر عن حبه لنا بكلمات عديمة المعنى، وكان في نظرة عينيه ما يوحي أنها تأتي من العالم الآخر. لا يستقر برأسي سوى قليل من الصور له، إلا أنني أريد أن أصفه بدقة. أذكر على سبيل المثال، ذلك اليوم الذي عاد فيه إلى المنزل من السوق القريب، أو ربما من الميناء؛ حيث كان يقوم بأعمال كثيرة؛ يحمل البضائع على ظهره، ويجرها ويسحبها ويرفعها، ويكدح من أجل لقمة العيش. على أي حال، اقترب مني في ذلك اليوم بينما كنت ألعب بإطار سيارة قديم، وحملني على كتفيه، وطلب مني أن أمسك أذنيه وأحركهما كما لو كانا عجلة قيادة. أذكر البهجة التي شعرت بها، وهو يُدحرج الإطار أمامه، ويصدر صوتاً يشبه صوت مُحرك السيارة.

كنت ساعتها أشم رائحته؛ مزيج قوي من روائح الخضراوات العفنة، والعرق، والأنفاس الكريهة. صورة أخرى ما زالت عالقة بذاكرتي ليوم العيد في أحد السنوات. كان موسى قد ضربني في اليوم السابق جراء حماقة كنت قد ارتكبتها، وكان كلانا يشعر بالحرج. العيد يوم للتسامح، وكان عليه أن يمنحني قبلة، ولم أكن أريد له أن يُريق ماء وجهه بالاعتذار لي، وإن حتى من بوازع ديني. أذكر أيضاً قدرته العجيبة على الوقوف بثبات.. والطريقة التي كان يقف بها على عتبة المنزل دون حراك، في مواجهة حائط منزل الجيران، وهو يمسك سيجارة وكوباً من القهوة، أعدته له أمي.

اختفى والدنا منذ زمن طويل، ولم يتبقى لنا منه سوى شذرات من ثرثرة الناس الذين يزعمون أنه هاجر إلى فرنسا. لا يمكن لأحد غير موسى أن يسمع صوته. كانت يأتي موسى في الأحلام ويوجه له الأوامر، فينقلها موسى إلينا. لقد رأى أخي والدنا مرة واحدة منذ رحليه، رآه من مسافة بعيدة جعلته لا يثق تماماً في أنه والدنا. وكنت في طفولتي قد تعلمت التمييز بين أيام الشائعات وبين الأيام العادية. فعندما يسمع موسى الناس يتحدثون عن أبي، كان يعود إلى المنزل وهو في قمة الغضب، وعيناه حمراوان، ثم ينخرط مع أمي في أحاديث طويلة همساً، تنتهي بجدال مُحتدم.

كان يتم إبعادي عن تلك الحوارات، إلا أنني كنت أفهم بعض محتواها: كان أخي غاضباً من أمي لسبب غامض، وهي تدافع عن نفسها بطريقة أكثر غموضاً. كان التوتر والغضب يكتنف تلك الأيام، وانتابني خوف لفكرة أن يهجرنا موسى أيضاً؛ أن يخرج ولا يعود، لكنه كان يعود فجراً، وهو ثمل، وفخور على نحو غريب بتمرده، ويبدو كمن اكتسب طاقة جديدة؛ تتلاشى حين يفيق. تتركز رغبته في النوم، وبهذا تسيطر عليه أمي من جديد.

يمكن أن أعرض عليك بعض الصور الذهنية، التي ما زلت أذكرها؛ فنجال قهوة، وبعض أعقاب السجائر، وحذائه الخفيف، وأمي تبكي، ثم تتمالك نفسها بسرعة وتبتسم في وجه أحد الجيران؛ الذي أتى ليقترض بعض الشاي أو التوابل. كان حزنها يتبدل بسرعة شديدة أمام الناس، لدرجة جعلتني أتشكك في صدق ذلك الحزن رغم صغر سني وقتها.

كان كل شيء يتمحور حول موسى، وحياة موسى تتمحور حول أبي؛ أبي الذي لم أعرفه أبداً، والذي لم يترك لنا سوى اسم العائلة فقط. هل تعلم ماذا كان اسم عائلتنا في تلك الأيام؟ أولاد العساس، أي أولاد الحارس.. فقد كان والدي يعمل حارساً ليلياً في أحد المصانع، ولم أكن أعرف ماذا ينتج ذلك المصنع. اختفى ذات ليلة، وهذا هو كل ما حدث. تلك هي القصة القديمة التي أخبروني بها. حدث هذا في ثلاثينيات القرن العشرين، بعد مولدي مباشرة.

كان موسى بمثابة الإله بالنسبة لي، رب بسيط قليل الكلمات. حين كنت أنظر إلى لحيته الكثيفة، وذراعيه القويين، يُخيل لي أنه عملاق قادر على سحق أي جندي من جنود جيش فرعون القديم. وكان هذا سبباً في عدم حزني أو غضبي في البداية حين علم بوفاته وما أحاط بها من مُلابسات، بل شعرت بالإحباط والغبن؛ كأنني تعرضت للإهانة. كان أخي قادراً على شق البحر، ومع ذلك، جاء موته عابراً، وبلا مغزى، كأنه كومبارس. مات على شاطئ لم يعد موجوداً الآن، قرب الأمواج التي كان يجب أن تمنحه شهرة أبدية.

في طفولتي، لم يُسمح لي سوى بسماع قصة واحدة ليلاً، حكاية وحيدة رائعة على نحو مؤلم. حكاية موسى؛ أخي القتيل، التي تتخذ شكلاً جديداً كل ليلة، وفق حالة أمي المزاجية. ما زلت أذكر تلك الليالي الشتوية الماطرة، وضوء مصباح الزيت الخافت، وصوت أمي الهامس. لم تكن تلك الليالي تتكرر كثيراً.. فقط حين يشح الطعام، وتزداد البرودة، وحين يطغى على أمي إحساس بأنها أرملة وحيدة.

حسناً، تموت الحكايات كما تعلم. لا أذكر تحديداً كلمات السيدة العجوز، ولكنها كانت تعرف كيف تصف الأشياء حتى أستوعبها، مثل الحكايات عن شجارات موسى؛ العملاق الخفي، مع الأجانب والروم، والرجل الفرنسي الضخم البدين؛ الذي ينهب أراضي الناس وعرقهم. وكنا نرى موسى، في خيالنا، وهو يقوم بعدة مهام مختلفة: يرد لكمة، ويثأر لإهانته، ويعيد قطعة أرض تمت مصادرتها إلى أصحابها، يقوم بتحصيل ديون.

وعلى حين غرة، حصل موسى الأسطوري على حصان وسيف وشجاعة القدماء من أجل رفع الظلم عن المظلومين. تعلم بالطبع كيف تسير الأمور بعد ذلك. قبل أن يموت، كان يشتهر بكونه ملاكماً سريع الغضب في مباريات الملاكمة الشعبية. وكانت أغلب حكايات أمي تدور حول اليوم الأخير من حياة موسى، وهو اليوم الذي منحه خلود الذكرى على نحو ما. كانت أمي تحكي عن وقائع ذلك اليوم بتفاصيل مدهشة، تخلق مشاهد مفعمة بالحياة. لم تكن تصف جريمة قتل، أو حادث موت، بدل تخلق في ذهني صورة تحول بديع، يجعل من شاب ينتمي إلى أفقر أحياء الجزائر إلى بطل لا يُقهر، انتظره الناس كثيراً، وكأنه المُخلص.

قد تتبدل التفاصيل مع كل مرة تحكي القصة فيها، مثل خروج موسى للعمل في سن أصغر من المعتاد، واستيقاظه من النوم بسبب حلم يحمل نبوءة، أو صوت مخيف ينطق اسمه. وحين تسرد وقائع القصة مرة أخرى، تذكر أنه كان يتحدث مع بعض أبناء الحي من العاطلين الذين لا يهتمون سوى بالفتيات والسجائر، والشجار. دار بينه وبينهم نقاش غامض، أدى إلى مقتله في النهاية، لست متأكداً: كانت أمي تحكي الحكاية بألف طريقة وطريقة، ولم أكن أهتم بالحقيقة في ذلك السن. وكان أهم شيء بالنسبة لي هو لحظات التقارب بين وبين أمي، والتصالح الصامت بيننا، الذي لا يتم سوى في الليل، وفي الصباح يعود كل شيء إلى طبيعته، حيث يعيش كل منا في عالمه.

ماذا يمكن أن أقول لك، يا سيدي المحقق، عن جريمة تم ارتكابها في كتاب؟ لا أعلم ما حدث في ذلك اليوم، ذات صيف شديد الحرارة، بين الساعة السادسة صباحاً والثانية عشرة ظهراً، ساعة مقتل موسى. وعلى أي حال، بعد مقتل موسى، لم يأت أحد ليستجوبنا بشأن الجريمة. لم يحدث تحقيقي على نحو جاد. لقد عانيت كثيراً من محاولة تذكر ما قمت به في ذلك اليوم. في الصباح، كان الجيران في الشارع كالمعتاد. عند نهاية الشارع، رأيت "طاوي" وأولاده. كان "طاوي" ممتلئ الجسد، يسعل على نحو متواصل، وهو يعرج بساقه اليسرى. كان يدخن بشراهة. وكعادته كل صباح، يخرج من بيته ليتبول على أحد الحوائط، باستمتاع كبير. كان الجميع يعرفه، لأن طقس التبول كان متكرراً بشكل منتظم وأصبح الناس يضبطون الساعة عليه؛ إيقاع خطواته غير المنتظم، وسعاله القوي كان أول علامات اليوم الجديد في شارعنا. وبعد منزله من اليمين، كان هناك "الحاج"، وهذا اسمه وليس لأنه أدى فريضة الحج إلى مكة. كان شخصاً صموتاً، وشاغله الأساسي هو الاعتداء على أمه بالضرب، والتحديق في عيون جيرانه بنوع من التحدي. وقرب زاوية الزقاق المجاور، هناك صاحب مقهى اسمه "البلدي". كان أولاده كاذبون ولصوص، بمقدورهم سرقة كل فاكهة الأشجار. وكانوا قد اخترعوا لعبة: كانوا يلقون علب الثقاب في مزاريب مياه الصرف الصحي، ثم يتبعون مسارها. لا يملون من تلك اللعبة. أذكر كذلك امرأة ضخمة وبدينة، لم تنجب، ومزاجية إلى حد كبير، كان اسمها "طيبية". اتسمت نظراتها لنا –نحن أبناء النساء الأخريات- بالاضطراب، وكانت تشف عن نهم إلى حد ما، وهو ما كان يجعلنا نقهقه بعصبية.

لم يكن هناك شيء مميز في ذلك اليوم الخاص. حتى أمي التي تؤمن بالفأل، وترهب الأرواح، لم تتوقع حدوث أمر غير عادي. يوم عادي تماماً، النساء تنادي على بعضهن البعض، والغسيل يتدلى من الشرفات، والباعة المتجولون يسيرون في الشارع. لم يسمع أحد صوت طلق ناري يأتي من مسافة بعيدة، طلق ناري انطلق في وسط المدينة عند الشاطئ. ولا حتى في ساعة الشياطين، الساعة الثانية ظهراً في الصيف؛ ساعة القيلولة. لذلك، أكرر ما قلت، لم يكن هناك أمر غير عادي. فكرت فيما بعد بالطبع، في ضرورة وجود نسخة حقيقية من القصة، من بين آلاف النسخ التي حكتها أمي، تقبع في طيات ذاكرتها، ووعيها اليقظ.

أثارت أمي شكوكي، وجعلتني أرتب ذهني في النهاية بسبب كثرة حكاياتها غير المنطقية، وأكاذيبها الواضحة. أعدت تركيب القصة برمتها من جديد. تكرر ثمل موسى، الرائحة التي تفوح في الهواء، ابتسامة الفخر على وجهه حين يجري ناحية أصدقاءه، ومحاولتهم الاتسام بالجدية، والطريقة التي كان أخي يستعرض بها مهارته في استخدام السكين، والوشم الذي كشفه لي على كتفه الأيمن: "العون من الله"، و"تقدم وإلا ستموت". ووشم آخر على ساعده: "اصمت" تحت رسم لقلب جريح. كان هذا الكتاب الوحيد الذي كتبه موسى. كتاب أقصر من تنهيدة ما قبل الموت، ثلاث عبارات فقط، نقشها على أقدم أوراق في العالم؛ جلده. أتذكر هذه الوشوم كما يذكر الأطفال صور أول كتاب طالعوه في حياتهم. أهناك تفاصيل أخرى؟ حسناً، لا أعلم، ستراته، أحذيته، لحيته التي تشبه لحى الأنبياء، يداه الكبيرتان اللتان استخدمهما في محاولة الإمساك بشبح أبي، وتاريخه مع نساء بلا أسماء وبلا شرف.

آها! المرأة الغامضة، هذا إن كان لها وجود بالفعل. عرفت اسمها الأول مؤخراً؛ وافترضت أنه اسمها حقاً. لقد نطق به أخي أثناء نومه، في الليلة التي سبقت مقتله: "زبيدة". أهي علامة على شيء ما؟ ربما. على كل حال، في اليوم الذي رحلت فيه مع أمي عن الحي إلى الأبد -قررت أمي أن تهرب من الجزائر العاصمة، ومن البحر- كنت على يقين أن ثمة امرأة تحملق فينا. نظرت إلينا نظرة طويلة. كانت ترتدي تنورة قصيرة وجوارب شفافة، وقصت شعرها مثل نجمات السينما في ذلك الوقت؛ فقد صبغت شعرها الأسود بصبغة صفراء كي يبدو أشقراً. ربما كتب أخي على مكان ما في جسده: "زبيدة.. إلى الأبد"، ربما. لست واثقاً من ذلك، إلا أنني كنت على يقين أن تلك السيدة هي زبيدة.

حدث هذا في الصباح الباكر. كنا قد تركنا منزلنا إلى الأبد، أنا وأمي، وكانت هي في الشارع، تمسك في يدها حافظة نقود حمراء، وتحملق فينا من مسافة بعيدة. كان بمقدوري، من تلك المسافة، أن أرى شفتيها وعينيها الواسعتين يطل منهما سؤال توجهه لنا عن أمر ما. أنا واثق تقريباً أنها زبيدة. أردت في ذلك الوقت أن تكون تلك السيدة هي زبيدة، وقررت أنها زبيدة، لأن هذا يضيف شيئاً ما إلى قصة مقتل أخي. كنت ألتمس عذراً لموسى، أبحث سبب لموته. رفضت موته العبثي دون وعي مني؛ أردت قصة تمنح موته كفناً يغطيها. جذبت أمي من "الحايك"، حتى لا ترى السيدة. ولكنها أحست بشيء ما، لأن وجهها امتقع، وتلفظت بألفاظ غاية في البذاءة. نظرت خلفي، لكن السيدة كانت قد اختفت، ومضينا في طريقنا.

أذكر الطريق إلى منزلنا الجديد، في قرية "حدجوت"، الحقول ذات المحاصيل التي سيقطفها أناس غيرنا، والشمس الساطعة، وركاب الحافلة المتربة. أصابني دخان الحافلة المشبع برائحة البنزين بالغثيان، لكني أحببت هدير المحرك الهادر، بل شعرت بالراحة لسماعه. وشعرت كأن الحافلة أب يهرب بنا، أنا وأمي، بعيداً عن متاهات المباني، والمسحوقين من البشر، ومدن الصفيح، والأطفال القذرين، ورجال الشرطة الشرسين، والشواطئ القاتلة بالنسبة لسكان الجزائر من العرب. كانت المدينة بالنسبة لنا، أنا وأمي، مسرحاً للجرائم، ومكاناً ينتهك البراءة والعراقة. أجل، الجزائر في ذاكرتي، هي بمثابة مكان قذر، وكائن فاسد، ومظلم، ولص غادر.

دعنا نرى، دعني أحاول أن أتذكر على وجه الدقة.. كيف علمنا خبر موت موسى؟ أتذكر ما يشبه سحابة خفية تحوم فوق شارعنا، وأناس راشدون غاضبون يتحدثون بصوت مرتفع، ويحركون أيديهم بقوة أثناء الكلام. في البداية، قالت لي أمي أن أحد الأجانب من ذوي البشرة البيضاء قتل ابن أحد جيراننا، وهو يحاول الدفاع عن شرف سيدة عربية. لكن القلق تسرب إلى منزلنا ليلاً، وعرفت أن أمي بدأت تدرك الحقيقة. ومن المحتمل أن أكون قد أدركت الحقيقة كذلك. ثم سمعت، على حين غرة، عويلاً طويلاً ومنخفضاً، ظل يتضخم حتى صار كتلة هائلة من الصوت الكثيف الذي أفسد أثاث منزلنا، وشرخ جدران منزلنا، وأطاح بالحي بأكمله، وتركني وحيداً. أذكر أنني شرعت في البكاء دون سبب واضح، ربما لأن جميع الموجودين كانوا ينظرون نحوي. اختفت أمي، وتم دفعي إلى الخارج، دفعني شخص أكثر مني أهمية، واكتنفني شعور بوقوع كارثة كبيرة. أليس أمراً غريباً في رأيك؟ قلت لنفسي بارتباك، ربما لما يحدث علاقة بأبي، الذي كان قد مات بالفعل، وهو ما جعلني أبكي بنفس الحُرقة مرتين.

كانت ليلة طويلة؛ لم ينم أحد فيها. تدفق نهر من البشر لتقديم العزاء. وتحدث معي الكبار بود. وكنت أقنع بالنظر إلى عيونهم، وأيديهم التي تصافحني، وأحذيتهم الرثة، حين أعجز عن فهم ما يقولون لي. شعرت بجوع شديد قرب الفجر، ولا أدري أين نمت. ومهما حاولت البحث في ذاكرتي، لا أستطيع تذكر شيء من تفاصيل ذلك اليوم واليوم التالي له، عدا رائحة الكسكسي. اكتست الأيام بصبغة يوم واحد، وأصبح الزمن مثل وادٍ عريض وعميق، أتقدم فيه ببطء. اليوم الأخير في حياة إنسان غير موجود بذاكرتي، عدا بعض القصص فقط. وهذا هو أفضل دليل على وجودنا العبثي في الحياة، يا صديقي العزيز: ليس هناك حق اليوم الأخير، بل مجرد نهاية عارضة للحياة.

أصابت الشيخوخة أمي في تلك الأيام، وأصبحت تشبه أمها أو جدتها، أو جدة جدتها. حين نصل إلى لحظة معينة من العمر، يمنحنا الزمن ملامح أسلافنا، ممزوجة بإعادة تجسيد لهم. وربما هذا هو حال الحياة الآخرة.. ممر لا نهائي يصطف عليه الأسلاف، الواحد خلف الآخر. ينظرون إلى أحفادهم، وينتظرون ببساطة، دونما كلمات، ودون حركة، وعيونهم الصبورة تترصد الموعد المُحدد.

لم أكن أعلم كم عمر أمي، ولم تكن تعرف كم عمري على الإطلاق. قبل الاستقلال، لم يكن الناس يعتمدون على مواعيد محددة. إيقاع الحياة لديهم هو وقت الولادة، وانتشار الأوبئة، والمجاعات، وغيرها من الكوارث. ماتت جدتي نتيجة إصابتها بمرض التيفود، وهو حدث يصلح في حد ذاته لإنشاء تقويم. وتركنا أبي في الأول من ديسمبر، ومنذ ذلك الحين، أصبح تاريخ تركه لنا نقطة لقياس حرارة القلب.

أتريد معرفة الحقيقة؟ لا أذهب لرؤية أمي الآن سوى نادراً. إنها تعيش في منزل تظله سماء، ينتظر فيه رجل ميت وشجرة ليمون دورهما. وتقضي وقتها في البكاء على أطلال ذلك المنزل الذي أقمنا فيه بقرية "حدجوت"، والتي كانت معروفة من قبل باسم "مارينجو"، وتبعد عن العاصمة مسافة سبعين كيلو متراً. هناك قضيت النصف الثاني من طفولتي، وبعض شبابي، قبل أن أذهب إلى العاصمة الجزائر، لأتعلم مهنة (إدارة أراضي الدولة) وأعود مرة أخرى إلى "حدجوت" لكي أمارس تلك المهنة. كنا –أنا وأمي- قد ابتعدنا قدر ما نستطيع عن صوت الأمواج التي تتكسر على الشاطئ.

فلنعد إلى التسلسل الزمني للأحداث مرة أخرى. غادرنا الجزائر –في ذلك اليوم الشهير الذي تأكدت فيه أنني رأيت زبيدة - وذهبنا للإقامة مع خالي وأسرته، الذين سمحوا لنا بالإقامة معهم بالكاد. كنا نعيش في حظيرة قبل أن يطردنا منها نفس من تركوها لنا. ثم أقمنا في سقيفة بمزرعة للمستعمرين، وحصلنا على عمل في المزرعة. عملت أمي خادمة، وأنا صبي مُراسلات. كان رئيسي في العمل رجلاً سميناً من الإلزاس، انتهت حياته، كما أعتقد، مختنقاً بتلك السمنة. قال الناس إنه كان يعاقب الهاربين من العمل بالجلوس على صدورهم. وقالوا أيضاً أن تفاحة آدم البارزة في رقبته بسبب ابتلاعه لشخص عربي؛ انغرس كالشوكة في حلقه. ما زلت أحتفظ بذكريات من تلك الفترة: عن قس عجوز كان يجلب لنا الطعام من وقت لآخر، وحقيبة من الجود صنعت منها أمي سترة لي، والسميد الذي كنا نأكله في المناسبات الخاصة. لا أود الحديث عن المشاكل، لأنها تمحورت في ذلك الوقت حول الجوع وليس الظلم. كنت ألعب "البلي" مع الأطفال في المساء، وإن لم يظهر أحد الأطفال في صباح اليوم التالي، كنا ندرك أنه مات –وكنا نواصل اللعب. لقد كان زمن الأوبئة والمجاعات. كانت حياة الريف صعبة. وكانت تكشف عن ما تخفيه المدن- كان معنى الريف حرفياً هو التضور جوعاً حتى الموت. وكان الخوف يداهمني ليلاً من سماع أصوات خطوات الرجال؛ الرجال الذين يعرفون أن أمي تعيش بلا أحد يحميها. كانت تلك ليالي اليقظة والحراسة، حيث كنت أجلس إلى جوارها. لقد كنت اسماً على مُسمى: ابن العساس، ابن الحارس الليلي ووريثه.

من الغريب أننا قضينا سنوات طوال في قرية "حدجوت" والقرى المحيطة قبل أن نستقر في منزل حقيقي له جدران. من يعلم كم كلف هذا المنزل أمي من الصبر والتدبير. إنه المنزل الذي تعيش فيه حتى الآن. لست أعلم. وعلى أي حال، كانت تفكر في الخطوة الصحيحة قبل القيام بها: عملت كخادمة، وكنت مُعلقاً على ظهرها وانتظرت حتى حدث "الاستقلال". حقيقة الأمر أن المنزل كان لعائلة من المستوطنين الفرنسيين. رحلت العائلة على عجل، واستولينا على المنزل في الأيام الأولى للاستقلال. إنه منزل مكون من ثلاث غرف، وجدرانه مغطاة بورق الحائط، وفي باحته شجرة ليمون صغيرة تحدق في السماء. وهناك حظيرتان صغيرتان ملحقتان بالمنزل. وأذكر كذلك كرمة العنب التي تلقي بالظل على الجدران، وتأوي الطيور. وقبل أن ننتقل إلى المنزل الرئيسي، كنا نعيش، أنا وأمي، في كوخ قريب منه، يستخدمه الجيران اليوم كمتجر للبقالة. أتعلم! أنا لا أحب تذكر تلك الفترة. لقد كنت مُجبراً حينها على تسول الشفقة.

وفي الخامسة عشرة من عمري، حصلت على وظيفة عامل مزرعة. كانت فرص العمل شحيحة، وأقرب مزرعة تبعد عن القرية مسافة ثلاثة كيلو متراً. هل تعلم كيف حصلت على الوظيفة؟ سوف أعترف لك: استيقظت ذات صباح قبل الفجر، وأفسدت إطار دراجة أحد العمال، حتى أصل قبله وأخذ مكانه. هذا ما حدث.. هذا ما يفعله الجوع بالإنسان. لا أريد أن ألعب دور الضحية، ولكن انتقالنا مسافة عشرات الأمتار من الحظيرة إلى المنزل استغرق سنوات. سنوات من الخطوات الصغيرة المُكبلة القاسية، كأنك تزحف في الوحل أو في الرمال المتحركة في كابوس. أظن أنها كانت عشر سنوات قبل أن نضع أيدينا على المنزل، ونعلن أننا حررناه، وأنه صار ملكناً لنا! أجل، أجل، تصرفنا مثلما تصرف الجميع في الأيام الأولى للحرية: كسرنا الباب، وقمنا بالاستيلاء على المفارش والشمعدانات. ولكن أين كنت أنا؟ إنها قصة طويلة، بدأت أشعر أنني تائه في تفاصيلها إلى حد ما.

بعد مقتل موسى، وقبل أن نغادر الجزائر العاصمة، حولت أمي غضبها إلى فترة طويلة من الحداد، جعلتها تكتسب تعاطف نساء الحي، ومنحها شرعية الخروج إلى الشارع والاختلاط بالرجال، والعمل في المنازل، وبيع البهارات دون أن ينتقدها الناس. كانت أنوثتها قد ماتت، وكذلك أطماع الرجال فيها. لم أكن أرها كثيراً في تلك الفترة. كنت أقضي اليوم بطوله في انتظارها، بينما هي تجوب أنحاء المدينة، وتتحرى عن مقتل موسى، وتسأل من كانوا يعرفونه من قريب أو بعيد، أو حتى تصادف أن قابلوه ذات مرة خلال عام 1942. كانت الجارات تقدمن لي الطعام، والأطفال يحترمونني كما يحترمون المصابين بأمراض خطيرة. وجدت وضعي –كشقيق الرجل الميت- مقبولاً؛ ولم أعاني منه إلا حين شارفت على سن الرشد؛ حين تعلمت القراءة، وأدركت ظلم القدر لأخي؛ أخي الذي مات في كتاب.

بعد وفاته، تغيرت طبيعة يومي. عشت حياتي بحرية تامة لمدة أربعين يوماً كاملة.. فترة الحداد كما تعلم. ولا بد أن إمام مسجد الحي شعر بارتباك جراء هذا الأمر برمته، فلم يجد أحد جثة موسى، ونادراً ما تقام جنازات للمفقودين.. لقد بحثت أمي عن أخي في كل مكان –في المشرحة، وأقسام الشرطة- وطرقت جميع الأبواب. دون جدوى. تبخر موسى؛ ولكنه مات بشكل نهائي وتام وغير مفهوم. كان هناك شخصان فقط في موقع الجريمة، حيث الرمال وماء البحر المالح، هو وقاتله. لم نعرف عن القاتل شيئاً تقريباً. إنه أجنبي، غريب. عرض الجيران صورته المنشورة في الصحف على أمي، ولكنه يشبه جميع المستعمرين الذين أصابتهم التخمة من السطو على المحاصيل. لم يكن بملامحه شيئاً مميزاً سوى سيجارة تبرز من زاوية فمه؛ ملامحه ضاعت من ذاكرتي في الفور، واختلطت بملامح بني جلدته.

زارت أمي المقابر، وأزعجت رفاقه السابقين، دون جدوى. لكن جهودها تلك كشفت عن موهبة الثرثرة، وتطورت فترة حداداها لتتحول إلى كوميديا مُدهشة، المشهد النهائي الذي خططت له، وعملت عليه حتى صار تحفة فنية. لقد أصبحت فعلياً أرملة للمرة الثانية، وحولت المأساة الشخصية التي تمر بها إلى نوع من التجارة، حتى تستدر عطف كل من يقترب منها. اخترعت مجموعة من الأمراض التي أصابتها، حتى تجمع كل سيدات الحي حولها إن أصابها صداع نصفي حتى. كانت تعاملني أحياناً باعتباري يتيماً، ثم أوقفت شعورها نحوي بسرعة شديدة، واستبدلته بنظرة شك وريبة، ونظرة تحذير صارم. ومن الغريب أنها أصبحت تعاملني كما كانت تعامل أخي المتوفى، وكأنه نجا من الموت، فتعد لي قهوته في المساء، وترتيب لي سريره، وتنصت حتى تستمع إلى خطواتي كما كانت تفعل حين يأتي من بعيد، من وسط الجزائر العاصمة، مروراً بالأحياء التي كانت محظورة علينا أيامها. كما تعرضت للاحتقار لأنني ألعب دوراً ثانوياً، وليس لدي ما أقدمه. وشعرت بالذنب لأنني على قيد الحياة، ومسؤول عن حياة أخرى ليست حياتي. كنت حارساً مثل أبي، أحرس جسداً آخر. أتذكر أيضاً تلك الجنازة الغريبة، وحشد الناس، والنقاشات التي دامت طوال الليل، وجذبني ضوء المصابيح، وضوء الشموع الكثيرة؛ ثم القبر الفارغ، والصلاة، والمغادرة. وبعد فترة الحداد الديني الذي امتد لأربعين يوماً، تم إعلان وفاة موسى رسمياً –جرف جسده ماء البحر- ومن ثم، تمت المراسم الإسلامية التي تتم للغرقى. غادر الجميع، عدا أمي وأنا.

ذات صباح، شعرت بالبرد حتى وأنا تحت البطانية، وكنت أرتجف. كان هذا بعد وفاة موسى بعدة أسابيع. سمعت أصواتاً بالخارج.. صوت دراجة تمر جوار المنزل، و"طاوي" العجوز يسعل، وصرير مقاعد، ورفع مصاريع حديدية. كل صوت في رأسي يرتبط بسيدة، وفترة من الزمن، وقلق، وحالة مزاجية، أو حتى نوع الغسيل الذي يتم نشره في ذلك اليوم. كان هناك طرق على باب منزلنا. حضرت بعض النساء لزيارة أمي. كنت أحفظ ما سيحدث عن ظهر قلب: صمت، يتبعه نحيب، ثم أعناق وقبلات؛ ومزيد من الدموع، ثم تزيح إحدى النساء الستارة التي تقسم الحجرة وتنظر نحوي، وتبتسم بارتباك، وهي تأخذ برطمان القهوة أو أي شيء آخر. ويستمر هذا المشهد حتى قرب الظهيرة. وفي الظهيرة فقط، بعد انتهاء مراسم ربط رأسي بمنديل مغموس في ماء بزهر البرتقال، وبعد نواح متواصل، وصمت طويل، تتذكر أمي وتحتضنني. ولكني كنت أعرف أنها تضم موسى وليس أنا. وكنت أتركها تضمني.

كما قلت من قبل، لم يتم العثور على جسد موسى.

وفيما بعد، فرضت أمي عليّ واجب إعادة التجسيد. فعلى سبيل المثال، بمجرد أن كبرت قليلاً، جعلتني أرتدي ملابس أخي وأحذيته، رغم أنها ما زالت كبيرة بالنسبة لي. واستمر هذا حتى بليت الملابس. وكانت تحظر عليّ الابتعاد عنها أو السير وحدي، أو النوم في مكان لا تعرفه؛ أو الاقتراب من الشاطئ، قبل أن نترك الجزائر العاصمة. لقد غرست أمي مخاوفها داخلي حتى هذه اللحظة. حين أسير على الشاطئ؛ حيث تموت الأمواج، ينتابني إحساس بالغرق وأنا أخطو فوق الرمال. لقد رسخت أمي اعتقاداً في أعماقي أن الماء هو الجاني، أن الماء أخذ جسد ولدها، وأن جسدي هو ما تبقى من ابنها الميت، وهو ما يفسر خوفي وجبني المادي.. وهو ما حاولت تعويضه بذكاء حاد، ولكن بلا طموح، كي أكون صريحاً. كنت أمرض كثيراً. وخلال كل فترة مرض، كانت تولي جسدي اهتماماً تشوبه نزعة آثمة، اهتمام مُمتزج برغبة جنسية غامضة. وكانت توبخني إذا ما أصابني خدش صغير، وكأنني جرحت جسد موسى.

ولقد حُرمت من متع الشباب الآمنة، وما يصاحبها من يقظة الحواس، والهياج الجنسي السري في فترة المراهقة. أصبحت صموتاً وخجولاً. تجنبت الذهاب إلى الحمامات العامة، واللعب مع الآخرين، وكنت أرتدي الجلابية حتى في الشتاء، لأنها تخفي انتصابي عن عيون الآخرين. استغرق الأمر سنوات حتى أتصالح مع جسدي، ولا أعلم حتى الآن إن كنت قد تصالحت معه أم لا. فلقد شاب الجمود مظهري، جراء خطيئة كوني على قيد الحياة. ومثل ابن حارس ليلي حقيقي، كنت أنام وقتاً قليلاً للغاية، وينتابني فزع لفكرة إغماض عيني، والسقوط إلى حيث لا أعرف أين سيحط اسمي؛ فلقد منحتني أمي مخاوفها، ومنحني موسى جثمانه. ماذا يمكن لمراهق مثلي أن يفعل وهو محاصر بين الموت وبين أمه؟

أذكر تلك الأيام القليلة التي صحبتني أمي فيها، وهي تجوب شوارع الجزائر بحثاً عن معلومات عن أخي المختفي. كانت تمشي بخطوات سريعة وأنا أتبعها، وعيني على الحايك الذي ترتديه حتى لا أفقد أثرها. وهكذا تكونت أُلفة لطيفة، جعلت العلاقة بيننا رقيقة لبعض الوقت. تمكنت أمي بأسلوب الأرملة والنشيج المحسوب أن تحصل على بعض المعلومات الحقيقية وتمزجها بنتف أحلامها من الليلة السابقة. ما زال بمقدوري رؤيتها وهي مع تسير إلى جوار أحد أصدقاء موسى، وتتعلق بذراعه في خوف، ونحن نمر عبر الحي الفرنسي، حيث نعتبر دخلاء.

أجل، لقد صنعنا معاً ثنائياً غريباً، يتجول في شوارع العاصمة على ذلك النحو! وفيما بعد، حين أصبحت قصة مقتل موسى كتاباً شهيراً، وغادرت الدولة، وتركت أمي وذاتي في طيات النسيان، رغم أننا عانينا من فقد الضحية التي وردت في الكتاب. ومع ذلك أبحث في ذاكرتي وأعود إلى الحي والتحريات التي قمنا بها، وكيف كنا ندقق النظر في النوافذ وواجهات المباني، بحثاً عن ما يرشدنا. وعثرت أمي ذات يوم على خيط: أعطاها شخص ما عنواناً. كانت العاصمة تشبه متاهة كبيرة ومخيفة عندما نتجاسر ونخرج من نطاق الحي الذي نعيش فيه، إلا أن أمي سارت دون توقف، وتجاوزت المقبرة والسوق المُغطى، وبعض المقاهي، وعبرت غابة من النظرات والصياح وصوت أبواق السيارات، حتى توقف لبرهة وحدقت في منزل في الناحية الأخرى من الشارع. كان يوماً لطيفاً، وكنت ألهث خلفها لأنها كانت تسرع الخطو. وكنت أسمع، طوال الطريق، صوتها وهي تسب وتلعن وتهدد، وتدعو الله، وأسلافها، وربما كانت تدعو أسلاف الله نفسه، من يدري. امتعضت قليلاً من هياجها، دون أن أعرف السبب. كان منزلاً مُكوناً من طابقين، ونوافذه مُغلقة.. وليس هناك شيء آخر خلاف ذلك يثير الاهتمام.

كان الأجانب في الشارع يرمقوننا بارتياب شديد. وبقينا هناك في صمت لوقت طويل. لمدة ساعة، أو ربما ساعتين، ثم عبرت أمي الشارع دون أن تلتفت إليّ، وطرقت الباب. فتحت سيدة فرنسية عجوز الباب. جعلت الإضاءة الشحيحة من الصعب على السيدة أن ترى أمي، لكنها وضعت يدها على جبهتها، وتمعنت في الزائرة. لمحتُ عدم الارتياح، وسوء التفاهم، والرعب الذي ارتسم على وجهها في النهاية. أصبح وجهها أحمر اللون، وأطل الفزع من عينيها، وبدا أنها على وشك أن تصرخ.

ثم أدركت أن أمي تصب عليها وابلاً من اللعنات، لم أسمعها تنطق بمثله من قبل. حاولت السيدة أن تبعد أمي عن الباب في قلق. شعرت بالخوف على أمي، وشعرت بالخوف علينا معاً. ثم سقطت السيدة الفرنسية على الأرض فجأة توقف الناس ليشاهدوا ما يحدث. كنت أميز ظلالهم خلفي –وتكونت مجموعات صغيرة هنا وهناك- ثم هتف أحدهم بكلمة "الشرطة". هتفت سيدة باللغة العربية وطلبت من أمي أن تسرع في الهرب. حينها استدارت أمي وصرخت، كما لو أنها توجه كلماتها إلى كل الروم في العالم: "سوف يبتلعكم البحر". وبعدها سحبتي وانطلقنا نجري، كأننا اثنين من المجانيين. وبمجرد أن عدنا إلى المنزل، تحصنت خلف جدار من الصمت. توجهنا للنوم دون تناول طعام العشاء. وفسرت، فيما بعد، للجيران أنها عثرت على المنزل الذي نشأ فيه القاتل، وأهانت جدته، ثم أضافت: "أو ربما قريبته أو رومية مثله".

لقد كان القاتل يعيش في مكان ما، في حي قرب البحر.. في بناء له طابق علوي مائل أعلى مقهى، لكن نوافذه كانت مغلقة دائماً في تلك الأيام. لذلك اعتقدتُ أن أمي أهانت سيدة فرنسية ليس لها صلة بالمأساة التي حلت بنا. وبعد الاستقلال بوقت طويل، قام مُستأجر جديد بفتح النافذة، وقضى على الاحتمال الأخير لحل اللغز. هذا هو كل ما أريد قوله لك، أننا لم نقابل شخصاً قال لنا أنه التقى بالقاتل أو نظر في عينيه أو فهم دوافعه. سألت أمي عدداً كبيراً من الناس، حتى أنني شعرت بالخجل منها في النهاية، شعرت أننا لا نبحث عن خيوط لحل اللغز، بل نتسول. ساهم بحثها في التخفيف عن ألمها، وتحول دخولها وخروجها من الحي الفرنسي إلى فرصة إلى التنزه.

أتذكر اليوم الذي وصلنا فيه إلى البحر. كانت السماء رمادية اللون، وعلى بعد خطوات مني، جلست عائلة خصمنا الضخم الجبار، لص ممتلكات العرب، وقاتل الشباب. لقد كان الأخير في قائمة أمي. وبمجرد أن وصلنا إلى هناك، نطقت أمي اسم سيدي عبد الرحمن، ثم نطقت اسم الله عدة مرات، وأمرتني بالابتعاد عن الماء، ثم جلست ومسدت كاحليها. وقفت خلفها.. طفل يواجه الجريمة الهائلة والأفق المفتوح. ماذا كان شعوري؟ لم أشعر سوى بالرياح على جلدي.. كنا في فصل الخريف، الخريف التالي للجريمة. كان طعم فمي مالحاً. رأيت الأمواج الرمادية الكثيفة. كان البحر يشبه جداراً له حواف متحركة. وعلى امتداد البصر، في السماء، رأيت بعض السُحب البيضاء الثقيلة. بدأت ألتقط أشياء من الرمال: محار، قطع زجاج، أغطية زجاجات، أعشاب بحرية. لم يخبرنا البحر بشيء، بينما ظلت أمي جالسة بلا حراك على الرمال، كأنها تنحني على شاهد قبر. وفي النهاية نهضت، ونظرت بحذر يميناً ويساراً، وقالت بصوت خشن: "لعنة الله عليك". أمسكت بعدها بيدي، وأخرجتني من الرمال، كما فعلت كثيراً من قبل. وتبعتها.

هناك ذكرى أخرى: الزيارات إلى الآخرة في أيام الجمعة، عند قمة "باب العوض". أقصد بذلك مقبرة "الخاطر"، والمعروفة كذلك باسم "العطرية"، بسبب مصنع تقطير الياسمين الذي أقيم بالقرب منها في السابق. كنا نذهب إلى المقبرة لزيارة قبر موسى الخاوي كل يوم جمعة. كانت أمي تنتحب بلا داعي، ووجدت ما تفعله سخيفاً، فلم يكن هناك أحد داخل القبر. أذكر النعناع الذي كان ينمو في المقبرة، والأشجار، والطرق الملتوية بين القبور، وثوب أمي الأبيض والسماء شديدة الزرقة. كل أهل الحي يعرفون أن القبر خاوٍ، وأن أمي ملأته بصلواتها وخيالها. كانت المقبرة هي المكان الذي تفتح إدراكي فيه على الحياة. هناك أدركت أن لي حق في الوجود في هذا العالم -أجل، لي هذا الحق- رغم عبث ظروفي المكونة من جثة تدفعني إلى قمة جبل، قبل أن تتدحرج إلى أسفل، إلى الأبد. في تلك الأيام، أيام المقبرة، بدأت الصلاة، ووليت وجهي شطر العالم، وليس شطر مكة. والآن، أعمل على تنقيح تلك الصلوات. ولكنني اكتشفت حينها، على نحو غامض، شكلاً من أشكال الحسية، لا أعرف كيف أشرحه لك! قوس النور، أزرق السماء البهي، قدرة الرياح على إيقاظ شيء ما بداخلي؛ شيء أكثر تعقيداً من مجرد حالة الإشباع التي تشعر بها فور تحقيق رغبة ما. تذكر أنني كنت قد تجاوزت العاشرة، وما زلت مُتعلقاً بصدر أمي. وكان للمقبرة جاذبية تفوق جاذبية الملعب للأطفال. ولم تعرف أمي أنني دفنت موسى هناك ذات يوم. صرخت فيه دون صوت حتى يتركني. هناك بالتحديد، في مقبرة الخاطر. هي اليوم مجرد مكان قذر، لا يأوي إليه سوى الهاربين والسكارى. علمت أن رخام المقابر يسرق على الدوام. هل تود رؤيتها؟ سيكون ذهابك مضيعة للوقت.. لن تجد أحداً هناك، ولن تجد أثراً لذلك القبر على وجه الخصوص؛ فقد أصبح حفرة عميقة مثل بئر النبي يوسف. وإن لم تكن الجثة بداخله، فلن تستطيع إثبات أي شيء. ولم يتم منح أمي أي شيء. لم تُمنح اعتذاراً قبل الاستقلال، ولا معاشاً شهرياً بعد الاستقلال.

أصبحت أمي شرسة، بطريقة ما، بعد وفاة موسى. حاول أن تتخيل سيدة: تم انتزاعها من قبيلتها، ثم تزوجت رجلاً لا تعرفه، هرب منها بسرعة وتركها أماً لولدين، أحدهما ميت والآخر طفل صامت أكثر مما ينبغي، وليس بمقدوره التواصل معها. سيدة فقدت رجلين، وأجبرتها الحياة على العمل لدى الروم حتى تحصل على ما يبقيها على قيد الحياة. لقد أضفت نكهة مميزة على تضحياتها. هل أحبها؟ بالطبع. بالنسبة لنا، الأم هي نصف العالم. ولكني لم أسامحها أبداً بسبب الطريقة التي عاملتني بها. لقد وبختني لأنني لم أخضع لحالة الموت التي شعرت بها، وعاقبتني لذلك. لا أعلم.. كنت أقاوم، وكانت هي تشعر بذلك، بطريقة مشوشة.

كانت أمي تجيد فن تحويل الأشباح إلى حقيقة، وفي ذات الوقت، كان لديها قدرة على إفناء من يقتربون منها، وإغراقهم في وابل من حكاياتها الوهمية. هي لا تعرف القراءة، ولكنني أعدك يا صديقي أنها قادرة على سر قصة عائلتنا، وقصة أخي عليك أفضل مما سأفعل أنا. لا ينبع هذا من رغبتها في الخداع، ولكن من رغبتها في تصحيح الحقيقة حتى تخفف من وطأة العبث الذي يكتنف عالمها وعالمي. لقد دمرها موت موسى، ولكنه –ويا للتناقض- منحها متعة لاذعة، وحداداً لا ينتهي. لقد انقضت فترة طويلة، لم يمر فيها عام، دون أن تقسم أنها عثرت على جسد موسى، وسمعت أنفاسه أو صوت خطواته، أو ميزت آثار أقدامه. ولوقت طويل أيضاً، جعلتني أشعر بالخجل منها؛ وهو ما دفعني إلى تعلم لغة تقف حائلاً بيني وبين نوبات جنونها. أجل، اللغة. اللغة التي أقرأ بها، اللغة التي أتحدثها الآن، اللغة التي لا تعرفها. لغتها ثرية، تحتشد بالخيال، والحيوية والمُباغتة، والارتجال، والافتقار إلى الدقة. استمر حزن أمي طويلاً، لدرجة خلقت الحاجة إلى مصطلحات جديدة للتعبير عنه. حين تستخدم لغتها، تتحدث كالعرافات وتجتذب النائحين، وتصرخ في وجه ما تعرضت له اعتداء مُضاعف في حياتها: زوج تبخر في الهواء، وابن ابتلعه الماء. تعلمتُ لغة جديدة. تعلمتها حتى أنجو بحياتي. بعد عيد ميلادي الخامس عشر، عندما انسحبنا إلى "حدجوت"، أصبحت طالباً مُجتهداً. مكنتني الكتب بالتدريج من تسمية الأشياء، وتنظيم العالم وفق مفرداتي أنا.

في "حدجوت"، اكتشفت كذلك الأشجار واكتشفت سماءً يمكن أن أصل إليها. وفي النهاية، تم قبولي في المدرسة التي لم يكن بها سوى القليل من أبناء الجزائريين مثلي. ساعدني هذا في صرف الانتباه عن أمي، وعن طريقتها المُربكة في مُراقبتي وأنا أتناول طعامي وأنمو، كأنها تقوم على تسميني حتى تضحي بي فيما بعد. كانت سنوات غريبة. كنت أشعر أنني حي في الشارع، أو في المدرسة، أو في المزارع التي كنت أعمل بها، وكانت العودة إلى المنزل تشبه دخول قبر، أو على الأقل، الإصابة بالمرض. كانت أمي تنتظرني هي وموسى، كل منهما ينتظرني بطريقة مختلفة. وكنت اضطر تقريباً إلى تفسير ذاتي، لشرح سبب غيابي وإهدار الساعات التي لا اشحذ فيها سكين الانتقام الخاص بعائلتي. كان الجيران يعتبرون الكوخ الذي نسكنه مكاناً منحوساً. وكان الأولاد يطلقون عليّ اسم "ابن الأرملة". كان الناس يخافون من أمي، ويشكون كذلك في أنها ارتكبت جريمة ما، جريمة غريبة.. وإلا ما هو السبب الذي جعلنا نترك المدينة ونأتي إلى هنا لنغسل أطباق الروم؟ لا بد أن مشهد وصولنا إلى "حدجوت" كان مشهداً غريباً: أم تحرص على إخفاء قصاصات صحف مطوية في صدرها، ومراهق يسلط نظره على قدميه الحافيتين، وبعض الأثاث الرث. وفي تلك الأثناء، كان القاتل يصعد فوق الدرجات الأخيرة لشهرته. كان هذا الوقت في خمسينيات القرن العشرين؛ حين كانت السيدات الفرنسيات ترتدين فساتين قصيرة، عليها رسم زهور، والشمس تلسع صدورهن.

(ترجمها من الفرنسية إلى الانجليزية: جون كولن)

كمال داوود، صحفي جزائري يعيش في أوران. نشرت روايته الأولى "تحقيق مارسيليا" في فرنسا العام الماضي، ونال عنها عدة جوائز. وصدرت طبعتها الانجليزية في يونيو 2014.


Featured Posts
Recent Posts
Search By Tags
No tags yet.
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic
bottom of page