top of page

رقصة اليمامة

رقصة اليمامة

قصة قصيرة

منشورة في مجلة إبداع، العدد 40 أكتوبر 2015

كنت أعرف أنها لن تجيب، ومع ذلك اتصلت. الرنين غامض، أحسه وهدة سوداء. لا بد أنها تسمع الآن تلك الموسيقى العجيبة. قالت لي أنها ترى نفسها في غابة مشمسة كلما رن الهاتف، أم أنها نسيته على الوضع الصامت كما تفعل معظم الوقت، فتظل الشاشة تنبض بومض متواتر.

ربما كانت مستغرقة في النوم، على أعتاب كابوس جديد. سمعت الهاتف لكنها استدارت وأعادت تشكيل جسدها في البحث عن راحة جديدة وهي تضع وسادة صغيرة على رأسها لترى رجلًا بالغ الطول، يشبه فرانكنشتاين. يرتدي سُترة سوداء ويسير مغمض العينين بين طاولات مقهى، ثم يفتح عينيه فجأة وينظر نحوها. يطاردها بعينيه وهي تتراجع حتى تصل إلى زاوية المقهى. ليس لها صوت تستغيث به، وهي ترى في يده مقص. الدموع تخرج من الكابوس وتسيل على خديها وهي ترى خصلات شعرها تتساقط على البلاط.

 

الرنين لا يتوقف.

ربما رأت الاسم على الشاشة وأحست تهديدًا مباغتًا فأغلقت الصوت حتى لا تستسلم لغواية الغابة، ثم عادت لرواية واسيني الأعرج، تبحث فيها عن طمأنينة مؤقتة. عيناها تتقافزان بين السطور، وعقلها شارد يوازن بين احتمالات كثيرة. لقد حاولت تجاوز الأمر بالسخرية والاستخفاف من اللحظة الأولى وهي تستدعي صورتي حين لمحت الاسم تحته صف الأرقام، وسهم يتقدم إلى الأمام ولا يصل أبدًا. يتلاعب الخيال برأسي لأتخيل أنها ندمت بعد أن توقف الرنين، وتمنت أن أعاود الاتصال.

عاودتُ الاتصال وأنا أتخيل رفة فرح مباغتة على وجهها، يتبعها شرود خاطف ثم اندهاش. تغلق الصوت من جديد، وتقرر ألا تعود إلى الرواية. ربما جلست تفكر في خطة تواجه بها هذا التهديد الجديد. تفهم أنها حيال فخ ساذج رأته قبل ذلك كثيرًا، وأنها قادرة على الهرب منه كما فعلت قبل ذلك مرات عدة. صورة الفخ تصلح لتأسيس موقف جديد أكثر تماسكًا.

قالت لي إنها لم تقع في فخاخ، بل ذهبت إليها مفتوحة العينين.

هناك احتمال ثالث. ربما سمعت نغمة الهاتف، أو انتبهت إلى ومض الشاشة بنفسجي اللون لكنها ظلت ممدة فوق السرير، دون رغبة في معرفة من يتصل. هذا الإهمال ليس موجهًا ضدي، بل ضد العالم؛ تحتمي به من منذ طفولتها الأولى من غضب أمها وحنان أبيها، وفضول العابرين.

***

الوقت يزحف..

سأقوم بمحاولة ثالثة. أتمنى أن تعرفي أني أحبك قبل أن تدق الساعة الثانية عشرة. عليك احتمال هذه الحكاية المُكررة والمستهلكة إلى حد الملل. يحدث أن يحب شخص ما أشباحًا وأطيافًا مشتتة على امتداد عمره، لكنه يعكف على نحت صورة في خياله بدأب وصبر. يجمعها من شذرات متناثرة، ويرسم فيها الروح والملامح ثم يطويها في الذاكرة ويحميها من عبث الدنيا. ثم يحدث لذات الشخص أن يقرأ رواية، يجوز أن تكون "رامة والتنين"، ويرى فيها نموذجه المطوي يخرج إلى الوجود كأنه مظلة فُتحت فجأة، ثم يقابلك فتسحبينه إلى عالم الرواية.

من تحبه غير مُتاح الآن عليك أن تعيد المحاولة في وقت لاحق.

استمتع بأنشودة الفقد..

أحب الشاي وفريدا كالو ونظرة عينيكِ. لكِ ابتسامة واحدة وثلاث نظرات، نظرة محايدة وأخرى شاردة، ونظرة ثالثة تجرح القلب. تنطلق حين تحررين نصف ابتسامة، وتحركين وجهك ناحية اليمين حركة هينة غير محسوسة، حركة لا يدركها أحد غيري. تهتز عظمة الأنف، ويقترب الحاجبان، وينضغط لحم الجفنين، فتضيق فتحة العين ويتسع النن إلى الحد الأقصى، يصبح شديد السواد وحوافه براقة. كأن نجومًا تنتفض وتخفق على حافة سماء ليل الشتاء.

أعرف أنكِ ستتوجهين نحو المرآة لمطالعة تلك النظرة، أو أتمنى ذلك حتى لا تفوتكِ تلك النعمة.

تشبه نظرة فريدا كالو التي رسمتها في عيني غزالة حيرانة، تقف وحيدة في ممر ضيق تسيجه أشجار شاهقة، ويُفضي إلى المجهول. لا أفهم إن كانت تبحث عن طريق للهرب، أو فقط تلتقط أنفاسها، أم أنها استسلمت بالفعل بعد أن أصابتها سهام الصيادين في كل جسدها من كل اتجاه.

حبيبتي.. جسدكِ مُنهك وساخن، يرشح دمًا وعرقًا. لا يفهم ألمكِ سوى صياد وقع في الفخ لتوه، يحب الشاي دون سكر وسيلفادور دالي، وابتسامتكِ تهوي بالقلب. قد تفهمين قصدي إذا اتسع الوقت لحكاية أُخرى عن الخائفين، وتدركين أن الجنون قادر أحيانًا على كسر الحكمة وتمزيق الواقع. لكن نسيج الواقع لزج ومطاطي، قادر على الالتئام بسرعة.

بين التمزق والالتحام الجديد لحظة ارتباك، هي السعادة المطلقة حيث كل العالم مفكك وبلا معنى، وقابل للتأويل من كل اتجاه، مثل أصابع يدك اليمنى وهي تحتضن أصابعك يدك اليسرى وتحيط بكوب شاي، وعلى وجهك ابتسامة جادة ونظرتك شاردة، تستحضر الذكريات.

لكِ عينا يمامة حذرة، ترقب العالم وهي تقف على أعلى فرع في الشجرة.

يرسم صديقي دالي الإنسان هيكلًا مفككًا، صدره أدراج مفتوحة، أحد هذه الأدراج مازال مغلقًا في خيالك. خيالي أنا يرى طفلة نحيلة ترصد الوجود بلا توقف، وتحاول فتح الدرج فيسقط على الأرض ويستيقظ الرعب في صدرها وهي ترى الأزرار وبكرات الخيط تتقافز حولها، والشذى ينطلق في فراغ الغرفة المعتمة بعد أن تهشمت زجاجة العطر، وانطلقت نشوة خصبة، جديدة على الجسد الصغير.

***

هل تكرهين تلك الفتاة النحيلة خمرية البشرة، قصيرة الشعر، غلامية الملامح؟ أهي الشرنقة التي تحررتِ حين انسلختِ منها؟

طيب عندي اقتراح، اشتري فستانًا يليق بمراهقة، شرط أن يكون قصيرًا على الركبة، ثم احتفظي به في ركنٍ قصيٍ في دولاب ملابسك، حتى تباغتي نفسك وتقفين به أمام المرآة. دون موسيقى سوف ترقصين وأنتِ مغمضة العينين، سترقصين حتى الإجهاد، حتى السقوط على الأرض. حينها ستظهر الفتاة النحيلة وتمد يدها لكِ، وتساعدك على النهوض، ثم تسحب الكرسي وتجلسكِ أمام المرآة. سوف ترفع ذقنك بأطراف أطابعها وتبتسم لكِ عبر المرآة وهي تمسد كتفيك ورقبتك حتى يزول توتر جسدك وتهدأ ضربات قلبك.

تنفسي بعمق، ولا تشيحي بوجهك عنها. تأملي الوجه الطويل والنظرة الساهمة والشعر القصير حالك السواد، وانتصاب الأذنين دون قِرط، ودون ثقب في شحمة الأذن. وجه فتاة يليق بصبي مشاكس، يلعب الكرة في الشارع، ويركل أحجار الطريق، ويضع كفيه في جيوب البنطلون وهو يمشي دون اكتراث بالعالم. لكنه يرتبك حين يساعد كهلًا مريضًا في عبور الشارع، فيقول له بعد أن يصل إلى الناحية الأخرى: شكرًا يا ابني. يحتار الصبي كيف يرد، هل يقول له بغضب: أنا بنت يا أعمى!! أم يشعر بالفخر، أم ينصرف صامتًا.

ذات الارتباك أصابه حين سقط على الرصيف أثناء لعب الكرة، وتمزق البنطلون وجُرحت ركبته فصرخ بصوت رفيع، وارتعد جسده حين امتدت إليه أيدي الأولاد، رفاق اللعب، ليساعدوه على النهوض. عاد إلى البيت وانطوى على نفسه، يؤلمه صوته الرفيع أكثر من جرح الركبة. صوت بلا معنى، تائه بين نعومة أصوات البنات وخشونة أصوات الصبيان.

تأملي عيون ذلك البنت ذات الرموش الطويلة والنظرة المحايدة، نظرتكِ حين تتذكرين الماضي، وتعاطفي مع قلقه القديم ومحاولاته اليائسة ليضبط نغمة صوته، ويحاول الوصول إلى طبقة خاصة، تجعل صوته مصقولًا وليس ناعمًا. ويحاول تقليد طريقة إخوته الذكور، فيقول لأمه بنبرة آمرة: أنا جعان.. عاوز آكل. ترد الأم بصوت عصبي، وغضب بلا مبرر: روحي إغرفي لنفسك، هو انت صغيرة..

لماذا لم تنهض الأم وعلى وجهها ذات الابتسامة، وتقول: حاضر يا حبيبي، وهي تتجه نحو المطبخ؟!

لماذا لم تضمها الأم إلى صدرها مرة واحدة؟!

لماذا أقصتها عن دائرة الحنان اليومي، وطالبت كثيرًا بكسر ضلوعها المعوجة؟!

استيقظت وحدها في الشقة ذات صباح على دقات الساعة في الراديو تعلن العاشرة من القاهرة، كانت مُصابة ببرد شديد جعلها طريحة الفراش، وكان أبوها ونصيرها غائبًا لسبب لا تعرفه، وأمها في العمل و إخوتها في المدرسة. وكانت قد خرجت للتو من أول كوابيسها وأقساها.

رأت في الحلم أنها في الطريق إلى المدرسة، تمشي وهي تعرج وجذعها يميل ناحية اليسار. الشارع مظلم ولامع بماء المطر، وهي تجاهد كي تصل إلى المدرسة قبل أن يبدأ الامتحان. جسدها ثقيل ومشلول، هناك رجل أحدب يكنس الشارع، تعرف أنه سوف يستدير ليواجهها، فتبكي كي لا ترى ملامحها على وجهه.

تقف أمام المرآة ورعب الكابوس مازال يسكن صدرها. جففت دموع العجز، ثم تعرت تمامًا رغم البرد، تبحث في جسدها عن ذلك الضلع الأعوج. لم تكن تعرف ما الضلع، فظنت في ذلك اليوم أنهما ضلعان في صدرها، كرتان صغيرتان مجعدتان فوق ارتفاع هين ولين. وفي المساء استيقظت في مستشفى، تحسست صدرها برعب، خافت أن يكون الطبيب قد انتزع ضلعيها. عرفت أن البرد تطور إلى نزلة شعبية حادة. كان اسم المرض مثيرًا وله إيقاع قوي.

أنتِ ظل هذا الجسد الصغير العاري ذو الزغب الأصفر.

برائته تهوي بالروح وتثير الشهوة، وتمنحكِ هالة من الحسن حين تطل من عينيكِ.

***

تشعرين بالجوع للحب والتفهم.

سأحكي لكِ حكاية عن الجوع.. كان لي صديق قديم، دائم الصمت، كئيب على حد وصف زملاء الدراسة في ذلك الوقت. تحدث إلىّ مرة ونحن في طريق العودة من المدرسة، بعد أن وصفت سمكة اصطدتها في اليوم السابق. تحدث عن صيد السمك والعصافير، وقال لي أنه يصطاد العصافير بالبندقية منذ زمن طويل، واقترح أن أشاركه طلعة الصيد القادمة يوم الجمعة، فوافقت.

اندهش من قدرتي على التصويب، لم تطش لي طلقة واحدة.

أصبحنا أصدقاء، نخرج كل جمعة للصيد ونعود بعشرات العصافير، يذبحها هو بالموس ويربطها في دوبارة. وذات ليلة سلط ضوء الكشاف على يمامة تنام فوق أعلى فرع في الشجرة، إلى جوار عشها. كنت أعرف أنه ذكر، وأن أنثاه ترقد داخل العش على فرخيها، وأنهما لم يستبدلا زغب الربيع بريش الصيف بعد. حاولت أن أثنيه فرفض، وجهت ضوء الكشاف إلى وجهه، فرأيت في عينيه مزيج من الغضب والنهم.

طاشت طلقته وحان دوري، أخذت نفسًا قويًا وحبسته في صدري. إن سقط فسوف تستيقظ الأم في الصباح، تنادي عليه حتى تيأس، ثم تقرر أن تكمل الحياة وحدها، لكنها لن تستطيع إطعام فرخين معًا. سوف تضحي بواحد لتنقذ الآخر، ستختار الأقوى والأكبر حجمًا، ستختار الذكر.

ضربت الفرع فاستيقظ ذكر اليمام وطار بعيدًا. قررت أن أخسر صديقي من أجل يمامة، حتى لا تمد منقارها وهي تصيء فتشيح الأم برأسها بعيدًا، تعيد المحاولة مع الأخ الهادئ الشبعان فلا يهتم، فيدفعها الجوع للخروج من العش بحثًا عن الأب الغائب، عن حنان الأم، عن وجبة واحدة. ستقف على الفرع نحيلة خاوية، عيناها لامعتان بالدموع تبحث عن الحب والتفهم.

حبيبتي.. كنتِ وحيدة وخائفة، ترتجفين في مواجهة هواء الربيع. روحك ممزقة، تتكالب عليها مئات الصور والأحلام المرعبة. تبحثين عن الحب في مدن الأشباح بين أشباح المدن، وتطاردين فراغ الشوارع.

ما حدث في الماضي لم ينتهي في الماضي. الماضي وشم على جبينكِ، يظهر حين تسوين شعركِ في لحظة خاطفة، يتدفق من بين أصابعك وأنت تحركين كفك في الهواء سهوًا، يحوم فوق رأسكِ كضباب الخريف.

حبيبتي.. من الآن لن يرتجف جسدكِ من البرد، لن تضيع صرخاتك في الفضاء دون رد. سأكون إلى جوارك وأنت غارقة في النوم، مغلقة العينين، وجبهتك ندية بالعرق. سوف أحرس أحلامكِ وأصارع معكِ...

لا أجد كلمات..

مشكلتك مع أفعال الأمر بسيطة، مشكلتي مع اللغة، مع الكلمات والمجاز، مع البلاغة القديمة والبلاغة الجديدة، اللغة لا تسعفني اللغة تخذلني اللغة لعنة. لنعد إلى أصل اللغة باعتبارها نظامًا رمزيًا من الإشارات والرموز.. رموز تحتاج إلى بعض الخيال لرسم صورة، مثلًا حين أقول لك: أحبك، أغمضي عينيكِ وتخيلي يمامة تمد منقارها في الهواء فتجد منقارًا قريبًا وجناحًا يطويها تحته، ويحيمها من البرد.

***

ثمة زهرة تذبل، ونور يخفت ويزوي ببطء، ببطء شديد غير محسوس. تعاقب الأيام يتغذى على اللحم الحي ويلتهم الأحلام، تذوب خلايا الجسد والروح واحدة تِلو أُخرى، وتتحول إلى ذرات من الملح، تتراكم حتى تصنع محارة جافة، ثم تتراكم وتدعم تكلسها بمرور الوقت.

ستدركين فجأة أنكِ حبيسة صَدفة صلبة وصارمة، بعد أن ينطفئ وهج عينيكِ وتصير بشرتكِ ترابية اللون وملابسك خانقة. الصدفة حِماية مُطلقة وحِصار مُحكم، لا أظن أنكِ ستهربين منهما بمشاهدة المسلسلات أو قراءة الروايات حتى. ربما تفعلين مثلي، وتخلقين عالمًا من الوهم، من الوهم المُتراكب، الوهم الحي الذي لا يتوقف عن النمو، الذي يعوض تقزم جسدكِ وأحلامك، ويُهدأ من روع انقباض صدرك كلما راودتك أفكار عن الحب واحتمالات الأيام القادمة.

لا أعتقد أن شخصية جارية حسناء في عصر الرشيد سوف تناسبكِ، مجرد امرأة تسكن قصرًا وتتدرب طول النهار على ممارسة الجنس والغناء وغزل المؤامرات. إنها صورة أخرى من التحجر، أقل بشاعة لكنها لن تضيف جديدًا، وربما أدت إلى قتلكِ بطعنة خنجر في الظهر، في ردهات القصر، ذات ليلة ممطرة. لماذا ليلة ممطرة؟! ربما لأنها الأنسب والأكثر تماشيًا مع المؤامرات والغدر والخيانة.

ليلة ممطرة.. عيناكِ غابتا نخيل ساعة السَحر، شرفتان يطل منهما القمر، مطرٌ مطر.

أظن الأنسب هو اختيار شخصية جديدة تمامًا، مبتكرة، لم تحدث من قبل في التاريخ، التاريخ المُعلن المُدون على الأقل. هناك على الهامش مئات الدراويش الذين عذبتهم أجسادهم وأرواحهم، وآلاف النساء اللاتي احترقن عشقًا. هناك عابدات القمر، وراقصات معابد عشتار. من منهن تفضلين، إنها مجرد اقتراحات يجب أن تفكري فيها من الآن، لأنه لن يكون هناك وقت للتفكير بعد أن تتقطع خيوط الواقع وتسقطين في وادي الجنون.

إن قررت التمدد على رمال شاطئ منعزل ليلة تمام البدر، قد تلتقين بي. سأمنحك قبلة واحدة، تمتد من مفرق شعركِ إلى أصابع قدميكِ، سوف تدركين بعدها أن الدنيا وهم، وأن كل تعقيدات الحياة مجرد حبكة فرعية، وأن هناك عاطفة سِرية يخفيها الجسد لا تظهر إلا في ضوء القمر. سر يشبه لؤلؤة صغيرة، أكبر من النجم القطبي، وأكثر منه وهجا.

أعرف أنك سوف تقفين طويلًا أمام هذا الخيار، لأنك بطيئة وخوافة، ألهذا قررتُ – دون وعي- أن أهدي إليك سلحفاة؟

بلاش بطيئة وخوافة. أعرف أنك مترددة وصبورة، صبر الإبل. أتعرفين أن هناك حيوانًا أكثر صبرًا من الإبل؟ كائن يشبه الغزالة، يعيش في الجبال حيث الهواء شحيح وثقيل بالضباب، يأكل الشوك، ويناور الصخور فوق المنحدرات الخطرة، دون أن يشكو أو ينفجر!

أخمن أن خياركِ الأول سوف يكون الرقص أمام المعبد فوق رمال خشنة، والتثني والتلوي على إيقاع الطبول الضخمة وضربات الكفوف وتموجات نيران المشاعل لإغواء العابرين. أثق أن تجار البلاد البعيدة سوف يمنحون الآلهة الحجرية غليظة الملامح الكثير من الذهب والفضة والماشية والتوابل وأثواب الحرير من أجلك. وأظن أنك لن تنتبهين إلى الولد الذي قدِم لتوه من الصحراء، يقف في الخلف على حافة الدائرة المنصوبة حولكِ. بالكاد يرى وجهكِ الموشوم بالألم والرغبة، وشعركِ الهائش، وذراعيك يصعدان ويهبطان بتتابع وسرعة هستيرية.

يسلط الولد بصره على عينيك المغمضتين حتى يرتفع الجفن ببطء وأنت تسقطين من الإرهاق والنشوة، ويلمح ومضة خاطفة تبرق في عينك اليمنى، أكثر وهجًا من نجم الشمال البهي، دليل التائهين في ليل الصحراء. قبل أن يضحي الولد بدمه، يقدم قربانًا للآلهة، تمثال صغير من الخشب، نحته بنفسه في زمن الصحراء لكائن يشبه الغزالة، يعيش وحيدًا في قمم الجبال، بقليل من الطعام والماء والهواء، دون أمل في الحب، ودون أن يشكو أو ينفجر.

***

صورت ليّ أضغاث الأحلام أنني أسير إلى جوارك في شارع طويل شحيح الإضاءة، وأنت تعترفين لي بالحب، وتحاولين تحاشي نظراتي. كان صوتكِ يأتي من مكان بعيد، وجسدي يرتجف من البرد، بينما انزلق عقلي في غواية مشهد عشق في رواية قديمة. وصلنا إلى بوابة بيضاء كبيرة، واجتزناها معًا. وأحسست في ذلك بشارة، فخفق قلبي.

انتقل الحلم إلى وهدة سوداء، ثم رأيت أننا نمشي معًا على كوبري فوق النيل. أحاول النظر إلى عينيكِ فلا أستطيع. صوتي محبوس، وماء النهر ساكن، لكنه يلمع قرب الشاطئ بأنوار ملونة تتراقص ببطء. خلعت معطفي ووضعته على كتفك، ثم أمسكت بكفك فمنحني بعض الدفء.

كلمة الحب تلتصق بشفتي ثم ترتد إلى حنجرتي.

قطفت لكِ وردة صغيرة تنمو على جانب الطريق، ولمحت ابتسامتك الباهتة تزيح عتمة الليل. ضممتك إلى صدري ونشقت عبير شعرك، ثم منحتكِ قبلة فتحول جسدكِ إلى بالونة زرقاء حملها هواء أول الليل إلى أعلى. ظلت ترتفع حتى ذابت في زرقة السماء، وكنت على يقين أنها لن تعود.

استيقظت من النوم مشوش الذهن ومرتبك، كلمة الحب على لساني وشفتيّ حلوة المذاق، وعبق شعركِ يفيض في الغرفة. خوف يمتزج بفرح، سرعان ما أن تحول إلى كآبة، ثم حزن تام، ثم خواء. الحلم يدور برأسي ويتكرر أمام عيني بإلحاح، لا أستطيع إبعاده ولا السيطرة على مشاعري. ذات الذهول اجتاحني من قبل.

حدث أيام الصبا أن وجدت يمامة صغيرة جائعة وبردانة. حملتها بين يدي وصنعت لها عشًا بين كتبي. كنت أطعمها وأسقيها بفمي حتى كبرت وكساها الريش، وأصبحت تطير في الغرفة، وحين تجوع، تقفز على كتفي وتقترب بمنقارها من فمي. كانت نقراتها المتوالية على شفتيّ تثير القشعريرة في جسدي، وتطلق موجة من الفرح بصدري. ومع ذلك، حملتها على كفي إلى البلكونة ذات صباح ربيعيّ. وضعتها على سور البلكونة وفرحت باندهاشها وهي ترى العالم لأول مرة منذ زمن طويل. رفرفت بجناحيها ودارت حول نفسها ثم طارت إلى الأبد، كنت على يقين أنها لن تعود.

سوف تختار أعلى الأشجار لتقف عليها وترقب العالم، قد تحب مُغازلة الذكور، تبحث لديهم عن بهجة غائبة منذ طفولتها الأولى، لكنها في النهاية ستظل وحيدة، شاردة ونافرة، أو ربما قابلت ذكرًا تعيسًا. التعساء يتقابلون حتمًا وينجذبون إلى أحدهم الآخر بسرعة، لكن لهم عادة سئية، يخافون السعادة ويرتجفون عند اقتراب الحب، لذلك يرتبكون وتنزلق اللحظة من بين أيديهم، وتبقى هواتفهم صامتة، تنبض بضوء بنفسجي.

أعرف أن حبي لكِ يصيبك بالتوتر، مجرد وجودي يضغط أعصابكِ، ويهدد بكسر الصدفة التي تحتمين بها. لماذا الخوف، ماذا سنخسر؟ سوف أقتبس لكِ من ماركس" إن استسلمتِ للحب لن تخسرين سوى صدفة ملحية، وفي المقابل ستكسبين وجودًا بأكلمه.

لمن أوجه الكلام، لكِ أم لنفسي؟! أنا أكثر منكِ ترددًا وخوفًا، وتعاسة.

أنا درويش بلا معجزة سوى قلب أنضجه الألم، وقدرة غريبة على الاحتمال. يخرج إلى الشوارع بعد كل إحباط بحثًا عن الحب من جديد، بلا يأس ودون أمل.

***

سأحكي لكِ حكاية أخيرة، حكاية عن العشق، مشهد من رواية جود الغامض. يحب البطل التعيس ذو الطفولة البائسة فتاة لا تقل عنه تعاسة، تزوجت من أستاذه وصديقه الذي أنقذه من بين مخالب الحياة، كلاهما يدين بالفضل للرجل الطيب. لكنهما يقفان معًا ذات مساء تحت المطر، يعترفان بالحب دون كلمات، ويعترفان في ذات اللحظة أنه حب مستحيل. ارتجفت البنت من البرد، فخلع معطفه وأحاط جسدها به. ( أصبح بعد ذلك مشهدًا متكررًا في الدراما والحياة) ثم تركها وابتعد، لم يلتفت حتى لا يرى دموعها ولا ترى دموعه، مضى في طريقه حتى ابتلعه الظلام.

رأى أحد النقاد أن جود حين منحها مِعطفه كان يتقمص المسيح وهو يضحي من أجل البشر بلحمه ودمه. ثم بدأ يميز بين العلاقة (الشكل الذي يتخذه الحب) وبين الحب ذاته، الحب في المطلق، رغبة الذات البشرية في الانتماء إلى/ والتعلق بشخص تصطفيه من بين كثيرين، لتحتمل الحياة، أو بالأحرى قسوة الحياة. يقفان معًا كواحد صحيح، جسد يستند إلى جسد، قبل يلتحم بقلب، روح تتشبث بروح.

تساقطت دموع الناقد الغِر وأفسدت ثلاث ورقات فلوسكاب وهو يكتب تلك الكلمات، وبعد أسبوع سمع الدكتورة تنادي على اسمه في المُدرج، وتنظر نحوه بإشفاق، ثم تقرأ ما كتب بصوت متهدج، وتختلس النظر إلى وجهه الأحمر بسبب الخجل بعد كل جملة. اختنق صوتها فجأة، وساد المُدرج صمت رهيب وهي تقرأ: به ينتصران على العتمة والفوضى، فوضى ما...

نسي ذلك الناقد أو تناسى أن الاعتراف بالحب جاء لحظة الوداع، وأن الهاتف الذي يحاول الاتصال به غير موجود بالخدمة أساسًا، وأن المِعطف لا يحمي من البرد إلا في أحلام اليقظة.

يمامتي البرية جميلة العينين..

صورتك تسلطت عليّ، في نومي ويقظتي، كأني شربت تعويذة الحب، وصرت فريسة فتنة العشق، سحرها يجوب دمي، ويلون العالم بلون عينيكِ.. والله بجد.

عارفة.. استهلكت حبر وورق كتير علشان أكتب الجملة دي، ولسه حاسس إنها مش دقيقة، مش واضحة ولا قادرة توصل حالة بجد، مشكلتي مع اللغة بتزيد، اللغة حاجة بنت كلب..

ورثنا اللغة كما ورثنا الشقاء. لم نخترها في الماضي، ومع ذلك تتحكم في رؤيتنا للعالم، وحركتنا فيه. تخيلي مثلًا طفلة صغيرة، تجلس بين يدي أمها وتستسلم لضربات المقص. تحبس دموعها وهي ترى شعرها يتساقط، تجمع الخصلات وتقبض عليها وهي تقف أمام المرآة، وتنظر إلى الحياة بغضب. صار وجهها غلاميًا، وأصبحت تتأمل شعر بنات الجيران وزميلات الدراسة. ترى فيهن أنوثة مفقودة لديها، وتتمنى أن تلمس ذيل الحصان الأصفر الذي يهتز أمامها وينزلق بين التختتين. كانت الرغبة في لمسه والقبض عليه، تمتزج برغبة أخرى أعمق وأصدق في قصه. لقد تحول ذلك الشعر الأصفر إلى رمز مؤقت للأنوثة، حالة من القلق والرغبة الباهتة، ضمير مستتر في لغة تندثر.

ذيل حصان، ضفيرة واحدة ضخمة، ضفيرتين تتأرجحان، وحس بالفقد. نعومة قاتلة، لمعة قاتلة، ملمس سحري، وسعادة مسروقة. هناك في ذلك الزمن يكمن السر، تفوح رائحة الخطيئة الأولى والبهجة الأولى والعذاب الأول. أول الأشياء أقساها. هاجس لحوح لا يزول، صرخات مكتومة، صداع دائم، أحلام منسية، كوابيس تسيطر على الليل والنهار. دم ينزف، نزيف لا يتوقف. لحظة الاكتشاف، اكتشاف الجسد، لها ألق رغم رعب المعرفة. الحنين، وجع الحنين، للحنين بريق خاطف، وألوان زاهية. أكثر بريقًا من شفرتي مقص.

ماذا تريد بنت قصيرة الشعر، ترتدي ملابس تشبه ملابس الأولاد، وتتحدث مثلهم بصيغة المُذكر؟ سوف تطارد الأنوثة ما بقي لها من العمر، سوف تحاول أن تُخفي عن نفسها تلك اللحظة التي لم تحدث، حين زارات البنت الشقراء طويلة الشعر في منزلها، ورأتها في ملابس النوم وقد تركت شعرها حُرًا. رائحة الجسد الحُر والشعر الطليق لها سطوة مُؤلمة، تجرح الروح وتترك فيها علامة لا تزول كمثل الكي بالنار.

في ذلك اليوم، في تلك الغرفة المعتمة المُشبعة بعبق الأنوثة انقبض قلبها، قررت أن تهب حياتها للانتقام من تلك اللحظة وهي تتأمل جسد صديقتها المُسترخي على السرير، وتتحسس شعرها المبتور، ثم تُداعب بنس الشعر والتِوك والشرائط الملونة اللامعة فوق التسريحة. قررت أن تنتقم فانطوى جسدها على نفسه، ثم تقوقع وتحصن، ثم صار مادة للإنكار والتنكر والنكران والإهمال والتجاهل والترك والهجر واللامبالاة والغفلة والسهو والنسيان.

ثم تُغير البنت قرارها، وتعيد اكتشاف جسدها مرة أخرى، وتعوض أيام الجفاف الطويلة. "أنتِ نحيلة، تحتاجين إلى مُقويات، أنت بدينة، تحتاجين إلى رجيم، حب الشباب ظهر في وجهك، تحتاجين كريم." سوف تترك شعرها لينمو، سوف تتابع نموه بشغف، تقيسه يوميًا بالمسطرة، وتشتري له الزيوت، وتفرح بلمعته ونعومته. وذات ليلة يُصيبها الملل فتقصه خُصلة تلو خصلة.

هذا ما أقصد بالشقاء الموروث، ما يحدث الآن وما سوف يحدث في المستقبل، هو رد فعل لما كان، أو صراع معه. صراع بين المُقاومة والاستسلام، مُطاردة الحب والهرب منه، الصراخ والصمت.

يمامتي قلِقة الروح، تخيلي معي نفسكِ مكان البطلة. على كتفك مِعطف، وخلفك بيت يُشبه الصدفة، وأمامكِ جسد يبتعد ببطء وقد مزقه الألم. عليكِ أن تتخذي قرارًا قبل أن يختفي إلى الأبد. أغلب الظن أنكِ ستأخذين خطوة إلى الأمام انتقامًا من أيام الجوع والجفاف، وخطوتين إلى الخلف خوفًا من أشباح الماضي. خطوة إلى الأمام.. خطوتان إلى الخلف، إنه فالس الوداع!! الوداع.

***


Featured Posts
Recent Posts
Search By Tags
No tags yet.
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic
bottom of page