أرض الملايكة: السخرية في مواجهة الواقع
- نصر عبد الرحمن
- Sep 1, 2015
- 4 min read

ترصد مسرحية "أرض الملايكة"، للكاتب "السيد فهيم"، مشاكل الواقع المعاصر بتفاصيله الدقيقة، على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ويتضح سعي المؤلف إلى مقاربة الواقع بشكل رمزي، وإعادة إنتاجه درامياً، حيث تحيل معظم مفردات النص من شخصيات وأحداث إلى ما يحدث في اللحظة الراهنة، حتى تبدو المسرحية وكأنه نموذج مُصغر لهذا الواقع.
فاللحظة الراهنة هي زمن المسرحية، وهو ما يظهر بوضوح في المشهد الأول أثناء اجتماع سري، يستعرض فيه عدد من أصحاب المهن المختلفة وأصحاب الرؤى السياسية المُتباينة تردي أحوالهم، ويخلصون إلى ضرورة التغيير، دون أن يصلوا إلى رؤية لشكل هذا التغيير أو الطريقة التي يمكن إنجازه من خلالها، وينتهي الاجتماع بإلقاء القبض على المُشاركين به. ورغم وجود إشارات تدفعنا للاعتقاد أن زمن الأحداث في الماضي البعيد؛ إلا أن استخدام المؤلف لمعظم الكلمات والتعبيرات التي شهدها الشارع المصري في الأعوام الأخيرة، وهو ما ندرك من خلاله أن زمن الأحداث هو اللحظة الراهنة: (حسن: المظاهرات دي بقت موضة قديمه.. دلوقتي في مليونيات)
اقتصر المكان في المسرحية على "الميدان"؛ مُرتكز العامة/ الرعية/ الشعب، و"القصر" مكان الطبقة الحاكمة، و"مشارف المدينة"؛ حيث يلتقي اللصوص بقائد العسكر، ويلتقي الهاربون من المدينة، ويحدث الخلط في اعتبار عابري سبيل تعرضا للسرقة ملاكين هبطا من السماء.
وترتكز حبكة المسرحية على الصُدفة التي تجعل من عابري سبيل ملكين، ويصبح منوطاً بهما إحداث تغيير يعجز البشر عن إنجازه، وقد يظن القاري للوهلة الأولى أنه بصدد تكنيك "الإله من خارج النص" في الدراما اليونانية القديمة، وأن ظهور الملكين سوف يغير الواقع، إلا أن نتيجة ظهورهما وانكشافهما، هي ترسيخ هذا الواقع.
وتتحرك الدرما بدافع من الصراع التقليدي بين الحاكم المُستبد والرعية المقهورة، إلا أنه يتطور بشكل مختلف عما ألفنا في مثل هذه الصراعات. إذ يلجأ عدد من الشخصيات الرئيسية إلى الهرب من هذه المدينة، بدلاً المواجهة وحرصاً على حياتهم، بدلاً من المواجهة. إلا أن "بشير"، المرشد الذي يعمل لصالح العسكر يشي بهم، فيتم القبض عليهم، عدا بهلول "أهبل القرية" الذي يدعو الله ليُنزل ملائكة كي تقيم العدل وترفع الظلم. ثم يقع الحدث المحوري في المسرحية حين يرى "بهلول" شخصين بملابسهما الداخلية ويظنهما ملاكين هبطا من السماء استجابة له، وينتشر الخبر ويصدقه العامة.
يحاول الشيخ "حجاب" استغلال الموقف لصالح الناس، ويتفق مع الشخصين على الاستمرار في التظاهر بأنهما ملاكين من أجل رفع المظالم وتلبية حاجات الناس. وفي نفس الوقت، يسعى الأمير وحاشيته إلى استقطاب الملاكين بدعوتهما إلى القصر، ويكتشفون حقيقتهما. وتختفي بارقة الأمل في تغير أحوال الناس، ثم تعود الأوضاع سيرتها الأولى، وما يلبث من حاولوا الهرب إلى إعادة المحاولة، فيظهر "بهلول" من جديد، في المشهد الختامي، مُعلناً ظهور الملائكة مرة أخرى. أي أن الأحداث تتحرك بشكل دائري، وتعود إلى نقطة البداية.
المسرحية بالعامية المصرية، لغة الناس الدارجة؛ الأكثر قدرة على التعبير عن همومهم وأحلامهم. ولقد تمكن الكاتب من توظيف الكثير من العبارات الدارجة والمقولات الماثورة، والأمثال الشعبية للكشف عن المكونات النفسية والفكرية لشخصياته: (الرزق يحب الخفية، العين الحمرا، دا عشمنا فيك، إياك أسمع حسكم، زي النسوان، يا فكيك، روحنا بلاش، ابن المفترية...) وغيرها من العبارات الدارجة والمألوفة، بما لها من زخم وسطوة ثقافية ومعرفية.
إلا أن المؤلف اكتفى بمستوى لغوي واحد، يتحدث به الفلاح والتاجر ورجل الدين والفرد العادي، كما لا يميز بين لغة الشارع ولغة القصر، وهو ما لعب دوراً هاماً في كسر الصورة النمطية عن حياة القصور ولغتها، وأسهم في تعرية الطبقة الحاكمة، وفضح ابتذالها وتدني مستواها المعرفي والثقافي والأخلاقي، كما فضح ازدواجية العلني/ المستور التي يحملها خطاب الطبقة الحاكمة في طياته. وهو ما يمنح اللغة دوراً في الصراع داخل النص.
وتتسم لغة الكاتب "السيد فهيم" بالسخرية اللاذعة، التي تنطلق من مرارة الواقع لتواجهه وتخفف من سطوته، وتخلق في ذات الوقت نوعاً من الكوميديا السوداء: (بهلول: كله إلا الخازوق.. يخلي المسطول يفوق.. والتعبان يروق.. والواطي يبقى فوق.. فوق)، وفي تهكمه على العلاقة بين اللصوص والشرطة، يقول جابر شيخ المنسر: (متقولش كده يا راجل.. ما هو لولا المنصر ما كنش فيه عسكر)، وغيرها الكثير من العبارات التي تتهكم على الواقع وتسخر من قسوته وفساده.
كما أن الحوار يتسم بسرعة الإيقاع، وخفة الظل، والتلاعب بالإلفاظ، ومن حين لآخر تظهر حوارات جماعية تشكل خطاباً واحداً يتوزع على عدة جمل متوالية تنطقها عدد من الشخصيات غير مُحددة الهوية كالتاجر، الفلاح، المُلتحي، الجندي، والأم، أو يشير المؤلف إلى أنها أصوات:
(أصوات: أنا عندي شكوه
وأنا ليه دعوة
وأنا معايا مظلمة)
ويخلو الحوار من المونولوجات الطويلة، وتندر فيه "المُناجاة"، فأغلب الجمل الحوارية قصيرة:
(حجاب: ... كيف الحال؟
فرج: زفت.
حجاب: يا راجل احمد ربنا.
فرج: الحمد لله زفت.)
وتنبع الكوميديا داخل النص من عدة عوامل، أولها هو اللغة الساخرة، والتلاعب اللفظي الذي لا تخلو صفحة واحدة منه، أما العامل الثاني فهو "الخطأ في تحديد الهوية"، حيث يتم التعامل مع عابري سبيل على أنهما اثنين من الملائكة، وما يستتبع ذلك من مواقف بسبب الحاجات البشرية لمن يعتقد باقي الشخصيات أنهم ملائكة، وتظهر حقيقتهما من خلال رغبتهما في الطعام، ودخول الحمام . كما يتم التعامل مع "بشير" على أنه أحد الثوار، بينما هو في الحقيقة "مرشد" يتجسس لحساب الأمن، يجيد إخفاء هويته الحقيقية:
(بشير: ما هو لازم حد يبلغ
حسن: إيه؟
بشير: يبلغ أهلكم.. علشان يعرفوا مكانكم)
وهنا مثال واضح على الكوميديا السوداء، حيث يعرف القاريء أكثر من الشخصيات، ويتضح له مدى سذاجتها وعدم إدراكها للواقع. ومع ذلك، تختلط رغبته في الضحك بحالة من التعاطف مع الشخصية، لأن اكتشاف حقيقة الملاكين يؤدي إلى ثبات الأوضاع، وخسارة الحلم الجمعي بالخلاص، وهو نفس الحال مع قدرة "بشير" على إخفاء هويته الحقيقية، وما قد يؤدي إليه من كشف لمزيد من الثوار.
أما النوع الثالث من الكوميديا هو "كوميديا الشخصية" على المستوى الجسماني والسلوكي. فالمؤلف يسخر من هيبة السلطان على المستوى الجسماني بتقديمه قصير القامة إلى حد كبير، وعلى المستوى السلوكي بإظهار تفاهته وخضوعه لزوجته. كما يقدم لنا المؤلف مشهداً بين جساس كبير العسكر، وبين جابر شيخ المنسر، يذكرنا بمسرحية "أوبرا الثلاث بنسات"، حيث المفارقة المثيرة للسخرية في العلاقة الحميمية والشراكة بين كبير العسكر وشيخ المنسر. كما يقدم المؤلف شخصية "بهلول" أهبل القرية التقليدي، بكل سماته المعروفة من خفة الظل والقدرة على السخرية والإفصاح بالحقيقة مُتخفياً خلف بلاهته، ومُستغلاً استخفاف الناس به.
ولقد أدت سطوة الواقعي على الدرامي إلى ظهور أغلب الشخصيات كنماذج بشرية مُسطحة، بلا ملامح درامية حقيقية، لا تنمو أو تتطور درامياً، أو تكتسب وعياً أو خبرة من تجاربها تحفزها على التغير. حيث يختفي "حسن" الثوري منذ المشهد الأول ولا يظهر مرة أخرى، وتظل أخته صباح على حالها دون تغير ويقتصر وجودها على كونه مُحركاً لبشير. إلا أن تغيراً محدوداً يطرأ على الشخصيات المحورية؛ فالشيخ "حجاب" الذي يلتزم بتعليمات الأمن في خطبة الجمعة، ويحاول الهرب من المدينة، يتحول إلى ثوري ويتفق مع عابري السبيل على الاستمرار بلعب دور الملائكة لكي ينتصر للناس، وما يلبث أن يخضع فور اكتشاف الحقيقة، ويحاول الهرب من جديد. أما "بشير" فيتغير موقفه من مرشد للأمن، وينحاز للناس بدافع من حبه لصباح ومحاولة حمايتها. أما "بهلول" فهو شخصية تلقيدية للغاية، وإن كان أكثر الشخصيات دفعاً للأحداث.
تواجه مسرحية "أرض الملايكة" الواقع الأسود شديد الوطأة بالسخرية، وتسخر من عجز البشر عن تغييره، ورهن حدوثه بتدخل سماوي.
Comments