top of page

التلصص على العالم قراءة في ديوان "الخروج إلى البيت" للشاعر "عصام خليل"

  • نصر عبد الرحمن
  • Sep 1, 2015
  • 4 min read

للشعر قدرة على اختزال العالم، ويمكن أن نرى من خلاله –على حد قول أوليفر جلودسميث- العالم في وردة، والأرض في حبة رمل. حين تطالع قصيدة، فأنت تطارد مفردات العالم وشذرات الوجود وإن بتشكيل غير معهود؛ له القدرة على "كشف الغشاوة عن عينيك" كما يقول "وليام وردذورث"، لترى ما حجبته العادة والتكرارعن ناظريك.

هذا ما يقوم به الشاعر "عصام خليل" في ديوانه الأول "الخروج إلى البيت"؛ حيث يعرض علينا عالمنا الذي ألفناه وتشبعنا به حتى غابت عنا تفاصيله، من خلال مجموعة من التجارب شديدة الاكتناز والكثافة والثراء. ويؤطر الشاعر سياقات مختلفة معاً، فيجاور بين الماضي والحاضر، وبين المقدس والعادي، وبين احتياجات الجسد ومتطلبات الروح، ويقدم في النهاية رؤية تتسم بالجدة والطزاجة معاً، لها القدرة على شحذ الوعي في مواجهة العالم.

يطرح عنوان الديوان "الخروج إلى البيت" أولى الإشكاليات والمفارقات؛ فالبيت هو الحصن والدفء والحماية، بينما يمثل "الخارج" الصراع والتجارب والخبرات. الخروج من البيت هو مواجهة للواقع والحياة المتجددة؛ الخصبة والشرسة في آن، واختلاط بالبشر باختلاف مشاربهم وخبراتهم ونزواتهم. الخروج هو السعي والاحتكاك، والمجازفة، وطلب المعرفة. وكأننا هنا بصدد ذات إنسانية وصل بها القهر مداه، والإحباط مبلغه؛ فقررت الانسحاب من معترك الحياة والانزواء بين جدران البيت بسبب خبرات قاسية –تتناثر عبر قصائد الديوان- وتصل إلى محصلة صاغتها من قبل عبارة "سارتر" الشهيرة "الآخرون هم الجحيم". وأن الخلاص من هذا الجحيم هو الانزواء والتشرنق والتحصن في عزلة بين جدران البيت.

أم أن الذات التي يقدمها الشاعر "عصام خليل" فقدت اهتمامها بالعالم أواكتفت منه، وهتفت كما هتف ابن تيمة منذ قرون: "أنا جنتي وبستاني بصدري"؟

ربما تكشف لنا مفردة "ملاك" بتنويعاتها عبر قصائد الديوان عن نزوع مثالي من جانب الذات التي يطرحها الشاعر في ديوانه، جعلها ترفض الممارسات البشرية، وتراها مقززة إلى حد الغثيان، مما استدعى هذا الانسحاب، والخروج إلى البيت، بعد العديد من الخبرات شديدة الوطأة: (لكنهم ليسوا ملائكة/ ابنة ملائكة/ بناه ملائكة طيبون/ صوت ملائكي...)

كما توفر قصيدة "حواء" مدخلاً لفهم هذه طبيعة الذات: (أنا فتات السماء، وابنة ملائكة أوصت بالرفق/ نعم الرفق على الوحيد آدم) لا تطرح القصيدة حرباً بين الجنسين، ولا إعادة صياغة للتراتبية المعهودة، قدر ما تحاول أن تقدم لنا صورة غير نمطية للرجل. فالرجل هنا، على عكس الراسخ في الثقافة الشرقية، هو الذي يعاني الوحدة والهشاشة، ويحتاج إلى الرفق؛ ربما ليغالب وحدته.

وفي قصيدة "أمام المقهى" يتقدم الشاعر "عصام خليل" خطوة أخرى في رسم ملامح الذات التي يقدمها في ديوانه. تقع بائعة الخضار، وهي فلاحة رثة الثياب، جميلة الملامح فريسة أحد الأثرياء "في عربته الملاكي"، لحظتها يظهر عجز تلك الذات عن الاشتباك في معترك الحياة، فتغترب وتلوذ بأحلام اليقظة لتعويض ما لم تدركه في الواقع. (أريد أن أصب صفيحة لبن في الخيال/ على كل انحناءة في هدومك/ على الكسر الملموم بين جلدتين)، ثم تتبع تلك المحاولة الخيالية محاولة أخرى تنتقم فيها تلك الذات المُغتربة طبقياً من خصومها أصحاب السيارات الملاكي (كلما لمحت سيارة بيضاء/ أحس بوخز كعب في الكبد/ يتحرك لعابي طواعية/ إلى قمصان الراكبات/ وبطانة النعمة).

وفي قصيدة "قارئة الفنجان" يجاور الشاعر بين ما تطرحه أغنية عبد الحليم حافظ من تجربة عشق وبين عاديات الحياة التي تحاصر ذلك العشق أوربما تقتله (زجاج السيارة ونافذة الحمّام الوردي وخزانة المطبخ والأدراج الكثيرة للمكتب/ أزرار القميص ومُزيل العرق/ المشطُ والريموت ولعبُ الأولاد/ الغسالة الكورية ومفتاح باب الشّقة). تستدعي أغنية "قارئة الفنجان" تحديداً الحواجز القائمة بين العاشق ومحبوبته، ويقيم هذا النص حواجز جديدة بين الذات العاشقة وبين صيغة الحب النقية. إننا بصدد عجز مزدوج وأحباط مُضاعف تتعرض له تلك الذات التي لم تتحقق عاطفياً، بعد عجزها عن الحصول على جسد إمراة مُشتهاة.

وفي قصيدة "مئذنة": (دوماً تؤثرنا المئذنة على نفسها/ انحل نصفها لحجارة انتخابات/ جزء انحنى كسقف ونحن نتغذى على الرصيف). تتحول المئذنة التي تشير إلى رفعة الدين وسموه، إلى دال على ممارسات بعض تجار الدين؛ الذين أهدروا الكثير من القيم في المُعترك السياسي. وهي أكثر التجارب وقعاً وثقلاً على تلك الذات الوحيدة الهشة المغتربة التي لا يجد ما يمكن التشبث به حتى تنجو من اغترابها.

لدينا الآن ما يكفي من استشهادات على أن تقوقع الذات التي يطرحها الديوان ناجم عن صدمات متوالية من تجارب متعددة، وأنها لم تلجأ إلى البيت/ الحصن/ القوقعة عن قناعة أواختيار، ولكنها دُفعت إلى ذلك دفعاً. ويظهر مجموعة أخرى من القصائد محاولات هذه الذات التلصص على العالم التي أقصيت عنه، ومازالت تريده، وتسعى للحصول على الممكن منه؛ من خلال التلصص على الجارة العفية، والتواصل عبر الهاتف مع أنثى مُشتهاة: (رنّ الهاتف/ فتحتُ سريعاً لأنّي وحيد،/ صوتُ ملاكٍ)، ومغامرات الخيال: (سيكون جريئاً معها/ وسيصبُّ كلّ الغضب على الباب المفتوح/ في الفستان)، وغيرها من أفعال التواصل السري المحدود مع العالم. وينصب الاهتمام بالجسد الأنثوي – البعيد في الواقع، والدافع للتمسك بالواقع - في محاولة للتعويض، ويتسم هذا الاهتمام بالشبق الجارف والرغبة في الاكتشاف والانتقام في ذات اللحظة: (تَنِزُّ أطرافك .. كُتبَ الأولين/ أفلام البورنو وأم كلثوم)، (تكشفُ جزءاً من قدميها/ هي لا تُخبرك شيئاً،/ جسدها الذي يقول./ تتفتحُ / وأنتَ تلوثها كوحش).

يستخدم الشاعر "عصام خليل" لغة مُحكمة ومقتصدة إلى حد كبير، تقتبس من مفردات التراث، وتعيد تشكيلها عبر مزجها بمفردات الواقع المعاصر: (نبحث عن عرجونِك بحداثة)، (قالت هيت لك/ وأسرفَت في القول/ وكُنتُ أُشبهُ طوبة نقعتها الظهيرة جُمعتين.)، (يحملونه على خشبٍ/ اخضرَّ من سجادِ الجامع/ نزعوا عنه كلّ أزراره المُحكمة/ كما بدأنا أول خلقٍ نُعيدُه.) وهو يستفيد من الدلالات الراسخة للمفردة التراثية، ويمنح المفردة المعاصرة ثقلاً نوعياً، ويباغتنا بتشكيل لغوي طازج.

لقد انعكست ثنائية التراثي/ المعاصر على التشكيل الجمالي في قصائد الديوان وتنوعت الإحالة إلى الماضي وإلى الحاضر. كما اتسعت الهوة بين طرفي المجاز في كثير من الصور البلاغية، وفتحت التأويل إلى مداه الأقصى في بعض الأحيان. ولا يقدم الشاعر سوى القليل من الإشارات، ويترك مساحات كبيرة للقاريء كي يقيم روابطه الخاصة بين طرفي المجاز، وبين الصورة الشعرية والواقع. إضافة إلى الشفرات المغلقة التي تكمن كوداتها بداخل النص نفسه، وليس خارجه. نحن بصدد تشكيل سيريالي على صعيد البنية الجمالية، وبنية النصوص؛ له القدرة على توليد عدد كبير من الدلالات، لكل منها ركائزه داخل النصوص. وهو الإطار الجمالي الأكثر تعبيراً، ليس فقط عن قلق "الذات" التي يطرحها الديوان، ولكن عن رؤية شاملة ترى الوجود عبثياً وترى العالم معادياً وشحيحاً وطارداً، إلا أن الفكاك من أسره مستحيل. وبين الطرد والمطاردة، يظل الإنسان حائراً ومُعلقاً في فلك لا يغادره، ولا يملك سوى التلصص من ثقب ضيق على العالم.

 
 
 

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic

FOLLOW ME

  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • c-youtube

© 2023 by Samanta Jonse. Proudly created with Wix.com

bottom of page