top of page

هكذا تهيأت للحديث عنك عصير الذاكرة المر

  • نصر عبد الرحمن
  • Sep 1, 2015
  • 3 min read

في ديوانه الثاني "هكذا تهيأت للحديث عنك"، يقدم لنا الشاعر " أيمن الشحات" تجربة تتمحور حول ذات قررت التوقف والنظر إلى الخلف لتنبش في الماضي، وتعيد فتح دفاتره القديمة في بحث عن ما قد تتمسك به لتغالب الحياة. ومن خلال فعل التذكر، يقدم الشاعر تفريغاً لتجارب معرفية وروحية، تمزج الوجع الخاص بالوجع العام، يكاد يكون بكائية ومرثية لما ضاع وتسرب في رمال الزمن أكثر منه غنائية عشق كما قد يوحي عنوان الديوان والإهداء. حيث لا نستطيع تحديد ملامح جسدية أونفسية لامرأة معينة داخل النصوص، كما أن الحوارات التي تدور بين "الذات" التي يطرحها الديوان وبين المرأة موضوع العشق، لها نفس الملامح اللغوية والنفسية مما يجعلها أقرب إلى المونولوج:

(=: " ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم "

-: النهايات دائما معلقة فى رقبة المدى

=: كأحلامنا)

يقدم لنا الشاعر "أيمن الشحات" تلك اللحظات التي تلتصق بالقشرة الخارجية للمخ، على حد تعبير "فرجينيا وولف". تلك اللحظات التي تلتصق بالذاكرة وتظل حاضرة بإلحاح، أوجاهزة للقفز إلى سطح الوعي عند أدنى إشارة تتلقاها من العالم المحيط. كما أن مفردة الذاكرة بتنوعاتها وما يرتبط بها من مفردات وتعبيرات حاضرة بقوة في الديوان (شارع الذاكرة، فضاء الذاكرة، وجع الذاكرة، حواف الذاكرة، تلون الذاكرة، صفحة الذكريات، بوابة الذكريات، أوراق الذكريات...) هذا بالإضافة إلى سيل من الاقتباسات والتضمينات والمعارضات والاستشهادات بأبيات لشعراء جاهليين وحداثيين، من شعراء الفصحى والعامية على السواء، وهتافات استخدمتها الجماهير في المظاهرات، وشطرات من العديد من الأغاني، واقتباس وحيد لقاص وهو يحي الطاهر عبد الله، وإشارة إلى رواية "شرق المتوسط" وفيلم "حبيبي دائماً"، بالإضافة إلى اقتباسات من جلال الدين الدين الرومي وابن عربي وغيرهما.

هذا الطيف الواسع من الاستدعاء، ويشكل ضفيرة من الوعي؛ تضرب بجذورها في أعماق الذاكرة والروح، لمراحل متفاوتة من العمر وتعكس خبرات شديدة التنوع والثراء. وتلعب الأنثى دوراً مركزياً في عملية التذكر والاستدعاء، إلا أن مركز العالم الذي يقدمه الشاعر "أيمن الشحات" يظل تلك الذات التي ترفض الواقع وتتشبث بأستار الماضي في محاولة للتوازن في مواجهة العالم.

كما يتخذ هذا الاستدعاء المكثف لمقاطع شعرية ونثرية شكل التداعي الحر والتدفق التلقائي، وهو ما يكشف، كذلات اللسان عند فرويد، حجم المعاناة والثقل التي تنوء به تلك الذات. كما يقوم بوظيفة جمالية فعالة، إذ يمنح النص قوة دفع هائلة، لما لهذه المقاطع من دلالات لدى القاريء العربي.

(تلك أغنية كانت تودع أسماءنا ، وهذى أمسية

وزعت بهجتها على أطراف المكان

" واطلق كلابك فى الشوارع "

يمرق الحزن فى قلوب الأمهات

تسقط دمعة فى وسط المدينة

"واقفل زنازينك علينا "

" سقط القناع عن القناع عن القناع "

هل الأفراح ما زالت لها شكل الندى ؟)

وتعمل هذه الوحدات المُستعارة كلاحم عضوي بين قصائد الديوان، مما يجعلنا نستنتج أننا بصدد تجربة واحدة حتى وإن كشفت التواريخ التي تذيل القصائد التباعد الزمني بين النصوص، كما يمكن لنا أن نرجح أن تقسيم الديوان إلى نصوص منفصلة هو تقسيم إجرائي وليس دلالياً، فالديوان يبدو وحدة واحدة، له نفس الروح والتشكيل اللغوي والبنية، وكأنه نص سيمفوني الطابع، تتنوع وتتعدد حركاته إلا أن بينها ناظم بنائي وموضوعي.

ولقد استطاع الشاعر "أيمن الشحات" توظيف هذه الوحدات المُستعارة في نقل الحالة الشعورية والمزج بين العام والخاص بسرعة ودقة، كما تمكن من تضفيرها في جسد القصيدة بسلاسة.

(" عايزين حكومة جديدة "

نشيج من الماضى ، وأصوات

من رائحة الكتب التى يكسوها التراب

تشد خاصرة الحنين ، وتشهق باللغة

"دى الحالة ع الحديدة "

انفجر المكان غيوما

ولم يبق إلا

" أنا

وهى

وزهور العالم")

ولم يقتصر إحباط الذات التي يقدمها النص على انتهاء الحب، كما يظهر في الإشارة إلى فيلم حبيبي دائماً بنهايته المعروفة التي يضع فيها القدر نهاية لعلاقة واجهت الأطر الاجتماعية وانتصرت عليها. أو كما يضعها الشاعر في إطار واضح:

(" ما كل ما يتمنى المرء يدركه "

حبات من الدمع تسقط

فوق خدين يحلمان بالنوم فوق نشوة الحلم)

فالمدينة والسياسة والسفر، وكذلك المنطق واللغة موضوعات إحباط لتلك الذات التي تقف أمام لحظة كشف بالغة الدلالة:

(التمنطق بالأشياء الكاذبة أصبح منهجا جديدا

فى النقد الذاتى

ذات الأشياء نفسها تغوص فى بئر زائف من الكلمات

هكذا اتضح لى)

ورغم أن استدعاء الموروث الصوفي كان قليلاً نسبياً إلى أنه يكشف حالة القلق العميق التي تكتنف الذات، ويحيل إلى الحل الانسحابي بالتخلي عن العالم والزهد في وهجه، كما تضبط هذه النزعة الصوفية مفهوم الحب الشامل؛ الموجه نحو الوجود بشكل عام، وليس نحو أنثى محددة. وبالطبع صبغ لغة القصائد بالمفردات التي تتسم بالتأويل المفتوح والكثافة والاحتشاد.

(أعلن المرادُ..

ليفضح وعي المريد

"وفاء وغدر انت"

يستيقظ ورد الكتابة ليجمع الأضداد في لغة

"وحب العمر انت")

ويختتم الشاعر "أيمن الشحات" ديوانه بلحظة المواجهة التي أعقبت لحظة الكشف، لحظة الإقرار بالهزيمة في مواجهة الواقع، اللحظة التي تكتشف فيها الذات أنها لم تصل إلى أحلامها، وأنها فقدت الحبيبة والوطن والمدينة، ولغة التواصل مع الآخرين. :

(أبقى فى ظل المسافة

وحيدا ، ومنطفئا

تقتلنى الهزائم)

هنا تبدأ دراما النص حين تقرر الذات المنطفأة استرجاع أحداث الماضي وخلق منظومة من الوهم المتراكب بالغوص بحثاً عن الفردوس المفقود، وما يمثله من لحظات التوهج حيث الصحبة والتواصل الذي أصبح مُفتقداً. إلا أن محاولة استعادة الماضي تنطوي على مفارقة، فالذاكرة مدموغة بالألم إلى حد تصبح فيه عملية التذكر تبريراً للهزيمة أكثر منها ترطيباً لقسوة الواقع. وحتى لحظات الأشباع في الماضي تكشف حالة الحرمان في الحاضر، وتكثف الإحساس بالمرارة إلى أقصى مدى.

 
 
 

Comments


Featured Posts
Recent Posts
Search By Tags
Follow Us
  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • Google Classic

FOLLOW ME

  • Facebook Classic
  • Twitter Classic
  • c-youtube

© 2023 by Samanta Jonse. Proudly created with Wix.com

bottom of page